كل ما فعله شيخ الفلاسفة المعاصرين " يورجن هابرماس" في مقاله المعنون (الإيمان والعلم) ، المنشور في مجلة " فكر وفن " الألمانية يناير عام 2002 ، والذي كتبه تحت تأثير صدمة زلزال 11 سبتمبر 2001 وتوابعه، هو إثبات أن الخطاب الفلسفي للحداثة (وهو عنوان كتاب له)، وإن كان يحرص أشد الحرص علي التحرر من اللاهوت المسيحي، إلا أنه ظل سجين أفق "الإيمان" بمفهومه الديني الأعمق . لينتهي هابرماس إلي التأكيد أن المجتمع ما بعد العلماني (في عصر العولمة وما بعد الحداثة) يعترف بالدور المهم للدين. والغرب لا يدافع عن الإهانات الفردية التي توجه لما هو ديني ليس لأنه ضد الدين، كما أنه لا يدافع عن الحرية الجنسية مثلا كهدف في حد ذاته، إنما يدافع عن فضاء يعيش فيه شتي أشكال الحياة والمعتقدات بلا صراعات. وبعبارة واحدة، فإن مغزي هذه الحرية هو : " من الأفضل تحمل " التجديف " علي تحمل الحروب الدينية " ، التي ذاق الغرب ويلاتها مدة ثلاثين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت وانتهت بمعاهدة " ويست فاليا عام 1648 " ، وميلاد الدولة القومية والحداثة. بيد أن ظهور الحداثة في الغرب تطلب أكثر من ترتيبات فنية ودستورية وأكثر من تسامح مشروع : وهو أن يتقبل المواطن الفرد في المجتمعات الغربية التعايش مع الآخر المختلف معه دينيا أولا ثم سياسيا ثانيا ... كيف ؟ هابرماس قدم لنا تحليلا جديدا في فلسفة التاريخ للعلاقة بين الفلسفة والدين، وللتاريخ الخاص للفظة " العلمنة " ذاتها ، في أوروبا طبعا . فقد كان لكلمة " علمنة " أولا معني قانونيا هو : نقل ملكية أملاك الكنيسة المفروض بالقوة إلي سلطة الدولة العلمانية. وقد استعمل هذا المعني تجاوزا لنشوء الحداثة الثقافية والاجتماعية في القرن السابع عشر . منذ ذلك الحين ، سوف ترتبط بفكرة " العلمنة " مجموعة من الآراء الذاتية والتقييمات المتناقضة : إما أنها التدجين الناجح لسلطة المؤسسة الدينية ( الكنيسة ) بواسطة السلطة السياسية المدنية، أو أنها قامت علي عملية الاستيلاء المنافي للقانون لهذه الأملاك ( الكنسية ) . القراءة الأولي هي قراءة علمانية ( حداثية ) حلت محل أشكال التفكير الدينية في الغرب ، أما القراءة الثانية فهي تنتقد العلمانية و( الحداثة ) لأنها شيدت مجدها علي أملاك مسلوبة بطريقة غير مشروعة أو شرعية . ويبدو أن اضطراد تقدم الحداثة هو منطلق القراءة الأولي (وهو ما يعرف بنقد الحداثة ) ، أما تداعي معاني الحداثة المشردة ، فهو جوهر القراءة الثانية ( لما بعد الحداثة ) اليوم . غير أن القراءتين، بحسب هابرماس، ترتكبان الغلطة نفسها .. لأنها تعتبر " العلمنة " نوعا من لعبة أو مباراة نتيجتها ( الصفر )، تلعبها قوي المعرفة والعلم والتكنولوجيا المنتجة، المنطلقة رأسماليا من عقالها من جهة، وقوي رجال الدين والمؤسسة الدينية المحافظة من جهة أخري . وبالتالي لابد من أن يربح طرف علي حساب الطرف الآخر، وذلك ، بحسب قواعد اللعبة الليبرالية التي هي لصالح القوي الدافعة الخاصة بالحداثة. هذه الطريقة في التفكير يرفضها هابرماس جملة وتفصيلا ، ولا تناسب اليوم مجتمعا هو في طور (ما بعد العلمانية)، اعتاد علي وجود الدين والمؤسسة الدينية وسط محيط ثقافي واجتماعي ديمقراطي ليبرالي " يتعلمن باطراد " . وجهة النظر الليبرالية هي : لا يستحق من الأديان صفة "العاقل" إلا الدين الذي يتخلي بسبب تعقله الذاتي عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات، وعن الإجبار القسري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين إليه، وبالدرجة الأولي عن استخدام العنف والإرهاب لفرض هذه القناعات علي الآخرين . تلك الفكرة، من وجهة نظر هابرماس، تدين بوجودها لتأمل ثلاثي الأضلاع يقوم به المؤمنون، متأملين موقفهم في مجتمع كوكبي تعددي. فعلي الوعي الديني أن يعالج أولا : اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخري وأديان أخري. ويجب عليه ، ثانيا : أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم . ويجب عليه ، أخيرا : أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة الديمقراطية الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينية.