يدور الجدل بين أغلب الفلاسفة المعاصرين في الغرب، داخل الأفق الميتافيزيقي للاهوت المسيحي. فقد اعترف "هيدجر" بفضل اللاهوت في تشكيل مسيرته الفلسفية، بقوله: "بدون هذا المنبع اللاهوتي، لم يكن بإمكاني أبدا أن أصل إلي طريق الفكر". وأثبت " دريدا " ، فيما بعد ، أن هيدجر وإن كان قد سعي جاهدا إلي التحرر من اللاهوت ، فإنه ظل سجين أفق "الإيمان" بمفهومه الديني الأعمق . "هابرماس" رأي في فلسفة "دريدا" نفس الشيء تقريبا، فالتفكيك عند دريدا - كما يقول - يريد أن يحتفظ من المسيانية (فكرة الخلاص) فقط "بالمسياني المتقشف" الذي يجب ان يخلع عنه كل شيء. من هنا حاول هابرماس أن يرصد داخل أفق الزواج الكاثوليكي بين الميتافيزيقا واللاهوت ما هو أعمق ، عن طريق إبراز الحدود الفاصلة والدقيقة بين الدين و"الأصولية"، خاصة في أعقاب زلزال 11 سبتمبر 2001 وتوابعه. فقد لاحظ هابرماس أنه بمجرد أن حرك الإرهاب الأصولي وترا دينيا في صميم المجتمع الغربي العلماني، حتي امتلأت المعابد والكنائس والمساجد بالمصلين، وهذا التوافق الدفين لم يبحث بعد بما فيه الكفاية، ذلك أن الأصولية، رغم لغتها الدينية، فهي ظاهرة حديثة نسبيا، كما يقول هابرماس. وهو يلفت النظر ، علي سبيل المثال، إلي عدم التزامن الحاصل بين الدوافع والأدوات أو الوسائل التي استخدمها هؤلاء الإرهابيون (الأصوليون) في تدمير البرجين، وهو ما يعكس عدم التزامن الموجود بين الثقافة والمجتمع في معظم البلاد العربية والإسلامية حيث إنه "حدث (تحديث) متسرع استأصل الجذور بشكل متطرف". من وجهة نظر الفهم الأصولي لأي من الأديان الثلاثة - الإسلام أو المسيحية أو اليهودية - فإن ادِّعاء امتلاك الحقيقة هو ادِّعاء كلِّي، أي أن من شأنه عند الضرورة أن يفرَض بوسائل العنف المختلفة. وهذا المفهوم ذو نتائج كارثية، فالأصولية الدينية تقصي الآخر والمختلف والمغاير، ولا تستوعب أصحاب العقائد والأديان الأخري أو تمنحهم نفس الحقوق المتساوية. ناهيك عن أن أية محاولة للحديث عن الدولة المدنية وحقوق الإنسان بالمعني العالمي، أو التلميح بإمكانية فصل الدين عن السياسة، يمثل تحدياً واستفزازا كبيرا للأصوليين . جوهر النقاش إذن - كما يؤكد هابرماس - لا يدور حول الأهمية التي تنسبها الحضارات المختلفة إلي الدين ، وإنما علي الفهم الأصولي للدين داخل هذه الحضارات. في المقابل ينبهنا هابرماس، إلي نقطة مهمة في "خطاب حقوق الإنسان" العلماني، الدائر اليوم بين جماعات ذات خلفيات حضارية مختلفة، والذي يبدو وكأنه الحل السحري الناجع في مواجهة الأصولية الدينية . هذه النقطة هي: أن التفاهم المبني علي الاقتناع العقلاني لا يمكن التوصل إليه، مادامت العلاقات بين المشاركين في التواصل مفقودة، ويعني بها "علاقات الاعتراف المتبادل"، وتبادل الأفكار والرؤي واحترامها، والاستعداد المشترك لتأمل الخصوصيات ومحاولة تفهمها أيضاً ، فضلا عن إمكانية التعلُّم المتبادل من بعضنا البعض، إلخ . ولذلك، ليس من الإنصاف والموضوعية ، كما يقول في كتابه " الحداثة وخطابها السياسي " أن نكتفي بانتقاد القراءات الانتقائية والتفسيرات المغرضة والتطبيقات الضيقة الأفق لحقوق الإنسان، بل يجب أن يطال نقدُنا أيضاً هذا الاستعمال المشبوة والمسيس لحقوق الإنسان، الذي يخفي مصالح الرأسمالية المتوحشة وآليات الهيمنة السياسية في العالم اليوم.