دشن " كانط " أول نظرة فلسفية في الحداثة، أما "هيجل" - حسب شيخ الفلاسفة المعاصرين يورجن هابرماس - هو أول من تناول الحداثة بوصفها إشكالية فلسفية، أو قل جعل من الحداثة الإشكالية الأساسية لفلسفته . وتتصف "الحداثة" ببنية علاقة مع الذات يسميها هيجل : "الذاتية". وتتضمن لفظة الذاتية عنده أربع دلالات ، أفاض فيها هابرماس في كتابه العلامة (الخطاب الفلسفي للحداثة ) * ، وهي : 1- الفردية 2- حق النقد 3- استقلال العمل 4- الفلسفة المثالية ، وهي كما يقول هيجل ، من عمل الأزمنة الحديثة ، بمقدار ما تدرك الفلسفة "الفكرة" التي تعي ذاتها أن الأحداث التاريخية المهمة التي فرضت مبدأ "الذاتية" هذا ، هي : الإصلاح والتنوير والثورة الفرنسية" . هذا من جهة، من جهة أخري فإن مبدأ "الذاتية" هو المبدأ المحدد لأشكال الثقافة الحديثة. وهو كذلك، أولا، بالنسبة للعلم الذي يفض مغاليق الطبيعة، وفي الوقت نفسه يحرر الذات العارفة، إذ ان معرفة الطبيعة ونظامها وقوانينها تحرر الإنسان . كما أن التصورات الأخلاقية للأزمنة الحديثة تقوم علي الاعتراف بالحرية الذاتية للأفراد، كذلك الفن الحديث الذي يكشف عن ماهيته في الرومانسية، فالفن الرومانسي سواء شكلاً أو مضموناً يتعين بالجوانية المطلقة ، كما يؤكد هابرماس . أي أن الحداثة والحياة الدينية والدولة والمجتمع والعلم والأخلاق والفن تتبدل في تجسيدات لمبدأ "الذاتية"، وهي تدرك في الفلسفة كذاتية مجردة في عبارة "انا أفكر إذن أنا موجود" عند ديكارت، وفي شكل وعي للذات مطلق عند كانط حيث يجعل من العقل المحكمة العليا التي يجب ان يمثل أمامها، بشكل عام، كل ما يدعي مصداقية ما ليبرر ادعاءه". لقد فصل كانط بين ملكتي العقل العملي والحكم، والمعرفة النظرية بوضع كلا منها علي أسس خاصة بها. وبمقدار ما يؤسس العقل النقدي إمكان المعرفة النظرية، والتمييز الأخلاقي، والحكم الجمالي، فإنه لا يكتفي بالتأكد من ملكاته الذاتية الخاصة، ولا من جعل تنظيم معرفة العقل شفافة، وإنما يضطلع بدور ( القاضي الأعلي ) مقابل الثقافة بمجملها. وعلي ذلك "فإن الفلسفة تحدد الدوائر الثقافية بوصفها علماً وتقنية، حقاً وأخلاقاً، فناً ونقداً جمالياً، وفق معايير صورية، بمنحها الشرعية في داخل هذه الحدود" . ويؤكد هابرماس أنه " حتي نهاية القرن الثامن عشر، كان العلم، والأخلاق،، والفن تتمايز - حتي في منظور المؤسسات - حيث تعالج بشكل مستقل، مسائل تتصل بالحقيقة وبالعدالة وبالذوق. إذ أن " دائرة المعرفة" هذه انفصلت في كليتها عن " دائرة الايمان" من جهة، وعن "دائرة العلاقات الاجتماعية" التي ينظمها القانون، كما انفصلت عن الحياة اليومية في داخل الجماعة . وإذا كان كانط قد عبر عن العالم الحديث ببناء عقلي، بمعني أن الملامح الأساسية للعصر تنعكس في فلسفته كما في المرآة ، فإن كانط لم يفهم "الحداثة" بوصفها كذلك - علي حد تعبير هابرماس - وبالتالي كان من الصعب علي "هيجل" تفسير فلسفة كانط بوصفها" التفسير الذاتي الحاسم للحداثة، إلا من منظور العودة الي الماضي. هنا بدأ هيجل التفكير فيما ظل غير مفهوم في مؤلفات كانط، ذلك أن كانط لم يشعر البتة بالتمايزات كإنقسامات شطرت العقل، والمفاصل الصورية التي تدخل في الثقافة، وبشكل عام، هذا الانقسام بين الدوائر . ترجم هذا الكتاب إلي اللغة العربية تحت عنوان " القول الفلسفي للحداثة" ترجمة د. فاطمة الجيوشي، وزارة الثقافة، دمشق، 1995 .