هل فكرت يوما في تأمل الآخرين، وتخيلت ما وراء أفكارهم وتصرفاتهم؟ هل فكرت يوما في تأمل الطعام أمامك، وتخيلت رحلته الطويلة في الوصول إلي مائدتك؟ هذه هي الصفة التي خلقها الله بداخل كل فنان تشكيلي وهي "التأمل"، وبالنظر إلي تاريخ الفن، نجد أن فينسنت فان جوخ كان من أكثر الفنانين تأملا وأكثرهم رقة قلب، فكان قلبه كقلب عصفور عاشق لحريته رغم كل المآسي التي عاشها، وحالة العصبية الشديدة التي تصيبه لحظة شعوره باللامنطق، ولحظة أن تقسو الدنيا عليه دون وجه حق. هذا الرجل الذي اعتبر أذنه التي يسمع بها ستكون لها قيمه أكبر بين يدي حبيبته، لتدرك إمتلاكها سمعه كما تملك قلبه وبصره، كيف كان ينظر هذا الفنان للعالم من حوله. نظرة المتأمل لحال كل شيء فلقد منح الحياة لكل شيء نظر إليه، فدائما ما أهتم بحياة القرويين والمزارعين وأسلوب حياتهم وشكلهم في العمل، وحتي حياة بسطاء المدينة وسهراتهم بالقهوة الشعبية، حتي الأماكن التي صورها بفرشاته، رغم خلوها من العنصر البشري، إلا أنه خلق بها حياة وروح لتأمله، حركة أشعة الشمس وتعاملها مع الأجسام، التي تسقط عليها، وكيف تستقبلها هذه الأجسام، فهناك من يعكسها مرة أخري وكأنه يتباهي بها، فيصبح مضيئا أو هناك من لا يكترث لوجودها، فلا يعبر عن وجودها، حتي علاقة هذه الأشعة وتخللها للهواء، وحتي القمر حين يلامس وجه الأرض كان له شكل آخر، غير ما يراه الأشخاص العاديون الذين يعانون من افتقادهم "للتأمل". ما سر "زهرة الخشخاش"، ولماذا هذه اللوحة ذات الحظ العاثر، التي تأبي الاستقرار، وتسيل لعاب مهووسي الفن التشكيلي، هذه اللوحه التي أبدعها فان جوخ عام 1887م، في مساحة ليست بالضخمة، فكان عاشقا للأحجام الصغيرة، وكأنه يسجل لحظة من التاريخ، ليسلط عليها الضوء، غرابة هذه اللوحة في اختلاف أسلوبها وتقنيتها عن باقي أعمال فان جوخ، فهي رسمت بروح كلاسيكية أكثر من حيث امتزاج الألوان وصراحتها كذلك الخلفية التي تمثل لونا واحدا، وهي ليست بأسلوب فان جوخ، فيبقي سؤال لماذا غير أسلوبه في هذه اللوحة؟ هل هي تعبر عن حالته في ذاك الوقت، خاصة أنه انتحر بعد ثلاث سنوات، وهي ليست بالمدة الكبيرة! "زهرة الخشخاش" عمل مغلف بحالة غموض كبيرة ومثيرة، فبمقارنتها مع أعمال فان جوخ الأخري، سوف تحتل ترتيبا متأخرا في مقابل لوحات عدة ك"آكلي البطاطس" ولوحاته عن زهور عباد الشمس، ولوحاته عن حقول القمح، وحتي لوحته للمقهي بالمساء، أيضا لوحته الشهيرة، التي أسست لاتجاه ما بعد الحداثة في الفلسفة، وأحدثت ثورة فنية كبري في وقتها وهي لوحة "زوج الأحذية"، وقد يكون اختلافها هو سبب شهرتها، ولكن الأكيد أن شهرتها إنها من فينسنت فان جوخ، والشاهد الوحيد علي يأسه وانتكاسته النفسية، لتنفي عنصر المفاجأة عن انتحار هذا الفنان العظيم، والنموذج الكلاسيكي لمعاناة الفنان التشكيلي.