التأمل في أي أمر معناه الدخول الي العمق, سواء في عمل الفكر, أو عمل الروح... هو أيضا الوصول الي لون من المعرفة فوق المعرفة العادية الخفية, معرفة فوق الحس معرفة جديدة عليك ومبهجة لروحك, تجد فيها غذاء ومتعة روحية. أو التأمل هو تفتح العقل والقلب والروح, لاستقبال معرفة يرسلها الله من فوق, أو من داخل روح الإنسان والتأمل يناسبه السكون والهدوء, والبعد عن الضوضاء التي تشغل الحواس, وبالتالي تشغل العقل وتبعده عن عمل الروح فيه, ويزداد التأمل عمقا كلما تتحرر الحواس من الشغب الحالي, ويتحرر الإنسان من سيطرة فكره الخاص, لكي يستقبل ماتعطيه الروح. وللتأمل مجالات كثيرة نود أن نتناولها بالتفصيل.. هناك تأمل في كلام الله, أو في الصلاة والتدبير والألحان. أو التأمل في الخليقة والطبيعة, أو في السماء والملائكة, أو التأمل في الموت والدينونة ومابعدها. وهناك تأمل في الأحداث وفي سير القديسين, وفي الفضيلة عموما, وفي وصايا الله. وهناك نوع آخر هو أسمي من التأمل في صفات الله الجميلة ومنها التأمل في المطلق, في الحق في الخير, علي أن موضوعات هذا التأمل قد تكون أكثر من أن نحصيها بحيث يتأمل الإنسان الروحي في كل شيء حتي في الماديات, يحاول أن يستخرج منها روحيات تفيده. من جهة التأمل في كلام الله: فكلام الله هو روح وحياة. والكلمات هي مجرد غلاف يغلف معاني داخلها. كالصدفة التي تحوي داخلها اللؤلؤ. وفي التأمل ينبغي أن تكشف الصدفة, وتأخذ اللآليء التي في داخلها, وهنا تصلي مع داود النبي وتقول: اكشف يارب عن عيني, لأري عجائب من شريعتك, أي تكتشف العمق الموجود في الوحي الإلهي. فإلهنا الحنون ينير عقولنا وأفهامنا لندرك عمق وصاياه, حقا يارب بنورك نعاين النور, وهنا يكون التأمل عبارة عن تقديم عقولنا الي الله, لكي بنعمته يملأها بالفهم الذي من عنده أو هو تلمذة علي نعمة الله, وتدريب كيف نأخذ منها الفهم الذي تريد ان تعطيه, فلاتقف ياأخي عند حدود العقل, بل اتخذ العقل وسيلة للوصول إلي الروح, والروح توصلك إلي الله الذي عنده كل كنوز المعرفة فيعطيك. القاريء السطحي في كلام الله, قد يقرأ ولايتأمل. أما القارئ الروحي, فالقليل من قراءته يكون له نبع تأملات لاينضب. إن كلمة واحدة أو عبارة تستوقفه فيغوص في أعماقها, ويظل سابحا في تلك الاعماق, وهو يقول مع داود النبي: لكل كمال رأيت منتهي أما وصاياك فواسعة جدا. لأنه في التأمل قد يفتح الله قلبه فيري في الآية الواحدة كنزا عظيما مهما اغترف منه لاينتهي. إذن كتدريب روحي خذ لك كل يوم آية للتأمل تكون قد تركت في نفسك تأثيرا عميقا أثناء القراءة.. وربما تكون معاملات الله مع الناس مجالا واسعا للتأمل.. سواء معاملة تبارك اسمه مع قديسيه الذين أحبوه وأطاعوه. أو معاملته للخطاة الذين انتفعوامن طول أناة الله عليهم التي قادتهم إلي التوبة.. إن شخصيات الكتاب أيضا تصلح مجالا للتأمل. إن التأمل في وصايا الله سوف يشغل نفسك أثناء النهار بفكر روحي, ويظل هذا الفكر يتعمق فيك, والفكر يلد فكرا من نوعه ويلد أيضا الكثير من المشاعر والعواطف والتأملات ويصبح قلبك نقيا تعمل فيه كلمة الله, ولايقف الأمر عند حدود اللذة بالمعرفة إنما يتطور ليكون له تأثيره في حياتك العملية, لذلك إن استطعت أن تطبق تأملاتك علي حياتك وتستخرج منها منهجا تسير عليه يدخل في علاقاتك مع الله ومع الناس. أما من جهة التأمل في الطبيعة فهو ليس مجرد تأمل في جمال الطبيعة إنما بالأكثر ما تقدمه لنا من روحيات, كما قال داود النبي في مزاميره: السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. وهنا نتدرج من التأمل في الطبيعة إلي التأمل في عظمة الله خالقها. وهنا أتذكر قول الشاعر: ها ذي الطبيعة قف بنا ياساري.. حتي أريك بديع صنع الباري. وقديما كانوا يدرسون الفلك في الكليات اللاهوتية. لأن النظام العجيب الدقيق الذي فيه يثبت وجود خالق كلي القدرة استطاع أن يوجد كل ذلك. إن كانت السماء المادية مكانا عظيما للتأمل, فكم تكون السماء التي هي عرش الله!! ويرتبط التأمل في السماء بتأمل آخر في الملائكة.. بل علي الأرض يمكن أن يكون هناك تأمل في جمال الورود والأزهار, وما أكبر الفارق بين الزهور الطبيعية وغيرها من الزهور الصناعية, التي مهما أفتن الإنسان في صنعها فهي بلا حياة بلا رائحة, بلا نمو.. وكذلك التأمل في طيور السماء في تعدد أنواعها وأشكالها ونغمات أصواتها, وطباعها, ورحلاتها. بل التأمل في النملة النشيطة حيث لم أر في حياتي كلها نملة واقفة بل هي دائمة الحركة. وفي ذلك قال سليمان الحكيم: اذهب إلي النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيما بل اكثر من هذا إذا تأملنا في النحل حيث نأخذ منه أيضا تأملا في النظام الداخلي الذي تعيشه مملكة النحل, وكيف خلقها الله بإمكانيات وقدرات عجيبة..وما أعجب ماقاله عنها أمير الشعراء أحمد شوقي: مملكة مدبرة بامرأة مؤمرة تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة أعجب لعمال يولون عليهم قيصرة إن الإنسان الروحي يستطيع أن يتخذ كل شيء مجالا للتأمل. ويستطيع أن يستخرج من الماديات ماتحمله من دروس روحية. كذلك جسم الإنسان هو مجال واسع للتأمل يدل علي عظمة الخالق فما أعجب القدرات التي وضعها الله في المخ, وفي القلب, وفي كل أجهزة الجسم البشري, وكيف تعمل متناسقة في اتزان عجيب وبعض هذه الأجهزة إذا تلف, لايقدر كل التقدم العلمي علي إرجاعه إلي وضعه الطبيعي. هناك تأمل آخر في الأحداث, ويد الله في بعض الأحداث, وفي تدبير كل شيء إلي الخير. ولاننسي التأمل في الموت, وفي القيامة, وفي الدينونة, وفي صفات الله الذاتية مثل الأزلية والقدرة علي كل شيء والوجود في كل مكان. وأيضا تأمل صفات الله في معاملته مع البشر. المزيد من مقالات البابا شنودة الثالث