اعترف أنني كنت سعيدًا عندما بدأت بعض الوزارات وهيئات الدولة الحكومية في تعيين «متحدث رسمي» باسمها تطل منه وبواسطته هذه الوزارات والهيئات علي الرأي العام ليكشف المتحدث الرسمي الحقائق التي غابت عن الناس وجعلتهم يضربون «أخماس في أسداس» لا يعرفون هل هذه المعلومة أو تلك حقيقية وصادقة أم أنها كاذبة ومزيفة! مبعث سعادتي بانتشار ظاهرة المتحدث الرسمي في السنوات الأخيرة كان وراءه احساس بأن من سيكون متحدثًا رسميا لن يسمح لمروجي الشائعات الصحفية والأكاذيب الإعلامية بأن ينشروا بين الناس في بلادنا حديث الإفك المدهون بعسل فيه سم.. وأن المتحدث الرسمي لن يدع أي فرصة للطابور الخامس الذي انتشر وينتشر ويتوغل ويتوغل حتي هذه اللحظة ناشرًا أكاذيبه وشائعاته التي لا تستند إلي أي دليل سوي الإحساس العام - للأسف الشديد - بأن ما تفعله وزارات الحكومة وهيئاتها الحكومية ما هو إلا رجس من أعمال الشيطان! وبادئ ذي بدء أود أن أقول إنني مازلت أري أن ايجابيات المتحدث الرسمي هي بالتأكيد أكثر من سلبياته.. ويصح هنا أن نقول بأنه في أغلب الأحوال يكون وجود متحدث رسمي أفضل بكثير من عدم وجوده. ولكن.. وآه وألف آه من «لكن» تلك الكلمة التي تفتح الأبواب ليدخل الشيطان.. بل ألف شيطان! قد يعمد المتحدث الرسمي إلي الدفاع المستميت، دونما أية أسانيد أو توثيق، عن صاحب قرار تعيينه معالي الوزير أو الباشا رئيس المصلحة أو الهيئة. وهنا تضيع الحقيقة ويتلقف الناس الطيبون الحياري ما يبثه إليهم أفراد الطابور الخامس من أكاذيب لتصبح تلك الأكاذيب هي الحقيقة التي منحها حضرة المتحدث الرسمي صك الحياة عندما عمل ألف حساب وحساب لصاحبه وولي نعمه معالي الوزير أو سعادة رئيس الهيئة! وقد يلجأ المتحدث الرسمي إلي تكذيب ما ينشر في الصحف ويبث في الفضائيات مستندًا إلي جملة شهيرة يشعر معها الناس عندما يقرأونها أو يسمعونها بملل شديد.. أقصد العبارة الممجوجة في أغلب الأحيان «ليس له أي سند أو أساس من الصحة». يفعل المتحدث الرسمي هذا مستسهلاً الأمر ومهونًا من المعلومة المنشورة التي يريد تكذيبا.. والمصيبة أنه في كثير من الأحيان لا يصدق الناس تكذيب أو نفي حضرة المتحدث.. بل يصدقون الطابور الخامس الذي يسعي في كل لحظة وثانية إلي ابتكار الأكاذيب وصنع الشائعات التي تلقي ومرة أخري للأسف الشديد - رواجا كبيرًا في ساحات الرأي العام! وقد يستسهل المتحدث الرسمي فيلجأ إلي عبارة أصبحت أشهر من النار علي علم «ده كلام جرايد»! والشاهد الآن أن تلك البصمة المعتادة أصبحت «كلاشيه».. وصارت «لبانة» في فم بعض من جعلتهم الأقدار متحدثين رسميين.. فتحول المواطن إلي ضحية محشورة ما بين مطرقة رجال الإعلام والصحافة وسندان المتحدث الرسمي.. لا يعرف الضحية من يصدق.. الجورنالجي.. أم المتحدث الرسمي بسلامته!؟ كنت أتمني أن يصبح المتحدث الرسمي عونًا للصحفيين والإعلاميين لا نارًا تلسع كل إعلامي وصحفي باحث عن الحقيقة التي يريد الناس أن يعرفوها كما هي بالضبط.. وليس كما يريد المتحدث الرسمي أن تكون. وكنت أتمني أن يفهم كل متحدث رسمي ويستوعب أن مصلحة من عينه ورقاه وجعله في هذا المنصب الحساس هي في أن يكون وسيطًا مخلصًا بين سيادة الوزير والسادة المواطنين.. إحنا. لكن المؤسف أن نفرًا من أولئك المتحدثين الرسميين أصبحوا مهوسين بإطلاق التصريحات والتكذيبات دفاعًا بالحق أو بدونه - عن ولي نعمته!. مرة أخري أكرر أنني لست ضد تعيين متحدث رسمي يكشف الحقائق ويفضح أكاذيب وافتراءات الطابور الخامس الذي يعيث الآن في الأرض فسادًا وإفسادًا حتي تتحقق الأجندة الخارجية التي يتبناها - دون وعي أو بوعي - أفراد بل كتائب هذا الطابور الذي زاد عدده وزادت عدته. لكنني ضد أن يستخدم معالي الوزير - أي وزير - متحدثه الرسمي في الرد علي معارضيه ومنتقدي سياسة وزارته.. بحيث يضع الوزير لسانه أو متحدثه الرسمي «في وش المدفع».. ليخلع الوزير بسلامته! أدرك جيدًا مدي حاجة واحتياج وزراء الحكومة إلي تعيين متحدث رسمي باسم وزاراتهم.. نعم ليس من المعقول - كما يردد بعض الوزراء - أن يتركوا أعمال وزارتهم ويردوا علي الصحف ووسائل الإعلام.. لكن ليس من المقبول أبدًا أن يكون الرد الجاهز للمتحدث الرسمي في أي لقاء تليفزيوني معه: ده كلام جرايد!.. والأمر المؤسف في ظاهرة تعيين المتحدث الرسمي للوزارات أن بعض الوزراء أصبحوا «خارج الخدمة» تطلبهم فيرد المتحدث الرسمي نيابة عنهم «ده إن رد».. وبتلك الكيفية العجيبة صار الوزراء مشغولين بشدة بأعمالهم فيما صار المتحدث الرسمي باسمهم مشغولاً وبشدة بإطلاق تصريحات وتكذيبات والرد علي كلام الجرايد بكلام تتكرر فيه العبارة المعتادة علي لسان كل متحدث رسمي «ليس له أي سند من الصحة.. لا أساس له من الصحة»! مرة أخري بل وأخيرة لست ضد ظاهرة المتحدث الرسمي.. لكن أن تأتي العبارة السابقة علي لسان المتحدث الرسمي في كل وقت فهذا هو الخطأ المبين. قديمًا قالوا: «تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت ولكنك لا تستطيع أن تخدع الناس كل الوقت». هل يحتاج بعض من يشغلون منصب المتحدث الرسمي أن نذكرهم بهذا المثل الشهير؟!.. أعتقد أن بعضهم يستحق أن يضع هذا المثل الشائع «حلقة في ودنه» لعله يضيق.. ويعلم أنه ليس هناك دخان من غير نار!!