«التفكيك» اليوم هو أحد مكونات المزاج الأكاديمي الأمريكي، وقبل أن يصبح أوباما رئيسا لأكبر دولة في العالم، هو بالأساس أستاذ أكاديمي وفقيه للقانون علي دراية بأحدث التيارات الفكرية (ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار) التي نقدت المركزية الغربية في مقتل، خاصة فلاسفة الاختلاف في فرنسا أمثال ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك لاكان وجاك دريدا وغيرهم. فقد انخرط فوكو في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، في تعرية مؤسسات الحضارة الغربية بشكل أركيولوجي (حفري) - Archeologie عميق، كمؤسسة المصح العقلي والسجن والمدرسة والجامعة، وسائر المؤسسات البورجوازية التي تهدف إلي تدجين الناس وتطويعهم فكريًا وجسديًا؛ أي أن منهجه الاركيولوجي مكنه من الكشف عن »الآخر« المقموع من خلال تعرية آليات القمع. وفي كتاب «الكلمات والأشياء» - Les Mots Les choses الصادر عام 1966، أثبت فوكو أن العلوم الإنسانية هي التي خلعت المشروعية علي النظام الحديث مثلما أن الفكر الديني المسيحي كان يخلع المشروعية علي »قمعية« النظام القديم. وهكذا حاول الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية هناك خلفيات هي الأساس الذي تبني عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل »القبلية التاريخية«. يترتب علي ذلك أن هناك نظامًا خفيًا وراء الظواهر هو الذي يشكل الشرط الحقيقي الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها أو بالأحري يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة.«(6) أما التفكيك Deconstruction - عند دريدا فقد أضاء بعدًا جديدًا، أكثر عمقًا وأبعد أثرًا، وهو أن أية بنية تنظم تجربتنا - أدبية أم سيكولوجية أم اجتماعية أم سياسية أم دينية - إنما تتشكل وتنمو وتستمر من خلال عملية «إقصاء». ففي عملية خلق شيء ما سيكون حتميًا إغفال شيء آخر. وهذه البني الاقصائية، قابلة أن تصير «قمعية»، وهو قمع تترتب عليه «آثار».(7) وكما سبق ونبهنا «فرويد» إلي العلاقة بين القمع والتخفي، يؤكد دريدا أن ما يقمع لا يختفي لكنه يعود دائمًا كي يزلزل كل البناء القائم، مهما كانت درجة الاستقرار التي يبدو عليها. لقد فهم دريدا جيدًا، كجزائري يهودي يعيش في فرنسا، وعاصر معظم التحولات العالمية الكبري في القرن العشرين، خطر المعتقدات والأيديولوجيات التي تقسم العالم إلي نقيضين تامين: اليمين واليسار، الغرب والشرق، الخير والشر، وأظهر أن هذه البني القمعية الدوجماطيقية] التي انبثقت مباشرة من داخل الميتافيزيقا الغربية، تهدد بالعودة دائمًا، مصحوبة بتأثيرات مدمرة. ومن ثم صارع من أجل إيجاد سبل للتغلب علي الأنماط التي تقصي الاختلافات، وكل ما هو «آخر».. ولذلك يمكن القول بأن التفكيك - Deconstruction ينطوي علي بعد ثوري أو انقلابي، وهو ما أزعج بالفعل المحافظين في أوروبا وأمريكا (إدارات الرئيس بوش الابن المتعاقبة) علي السواء، ورأوا فيه نوعًا من العدوان علي الحضارة المتمركزة حول ذاتها، والتي يفتخرون بها، وهو ما ألتقطه الرئيس الأمريكي باراك أوباما جيدا، ويحاول تطبيقه في سياساته الخارجية خاصة مع العالم الإسلامي، بحيث إنه يمثل أول محاولة سياسية جادة لتجاوز أربعة قرون من العلاقات الملتبسة والغائمة بين الغرب والشرق بصفة عامة، والتحرر من مفهوم (الأحادية) ثم نقد فكرة الثنائية التي تقوم علي الصدام والصراع التي سيطرت علي العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وحتي نهاية الحرب الباردة عام 1989، إلي محاولة تحقيق التكامل والتوازن في العلاقات الدولية في العقد الثاني من الألفية الثالثة. الهوامش: 6 - Michel Foucault: Les Mots et Les Choses, ed. Gallimard, Paris, 1966, P. 171. 7 Derrida: Positions, P. 41 [email protected]