رجل قصير القامة يكلل هامته تاج من الشعر الأبيض الناصع, ونظارة طبية وعقل كبير, قليل الكلام مقتصد العبارة دقيق في خطابه الشفاهي الوجيز المترع بالمفاهيم. التي شكلت مسار التطور الألسني والسوسيولوجي والأنثربولوجي والفلسفي والثقافوي في النصف الثاني من القرن العشرين في ذات الوقت كان يمتلك معرفة راسخة واطلاعا واسعا وعميقا في التاريخ الإسلامي وعلوم الكلام والفقه وأصوله ومدارسه وفي المذاهب والعقائد الإسلامية, وبنيات كاملة من التفسيرات والتأويلات والمتون والشروح عليها, والشروح علي الشروح.. الخ.. والوضعية حول المقدس الإسلامي ومصادره. كان لديه متابعة دقيقة وممارسة بحثية في العمق وانطلاق من نمط متميز من المقاربة النقدية والتفكيكية لمابعد البنيوية من فوكو الي داريدا.. الخ حيث مارسها علي نحوما في جسارة فكرية وروحية تليق بعقل يمتلك آلة تفكير وتحليل جبارة, ومهجوس بأسئلة واهتمامات وموضوعات اشتغال العقل الإسلامي في التاريخ وسياقاته ومحمولاته وفاعليته ونقدها والبحث عن المسكوت عنه وغير المفكر فيهimpense لاسباب أيديولوجية محضة ولايعود ذلك إلي أن اللغة العربية قاصرة عن ذلك, ولا لأن فكر المسلمين ضيق أو ضعيف بالطبيعة أو بشكل أزلي, أوأنه غير قادر علي إدراك تلك الدرجة من التفكير والفهم. لهذا السبب ألمح كثيرا كما قال في تاريخيه الفكر العربي الإسلامي علي ما لم يفكر فيه بعد في الفكر الإسلامي, إما بسبب أن الفكر الإسلامي تنحصر مرحلته الإبداعية كلها في الأطر الفكرية الخاصة بالقرون الوسطي( أي المنظومة المعرفية الخاصة بهذه الفترة) وإما بسبب ماسيطر عليه من ضغوط ايديولوجية في صورة ارثوذكسيات دينية.( م.س. ز ص9,8). من هنا عمل الي حد ما إلي إعادة فحص ماتواضعت عليه بعض المؤسسات الدينية وإنتاجها التاريخي الفقهي والتفسيري والكلامي والسجالي,. ركز باكرا علي كتابات مرحلة تشكيل وتألق المدارس الفكرية الفقهية والكلامية في القرنين الرابع والخامس للهجرة, أي القرنين الحادي والثاني عشر للميلاد. من ناحية أخري كان من أبرز نقاد الإرث والتقاليد والممارسات الاستشراقية علي اختلافها علي عكس الصور التي إشاعها بعضهم عن إنتاجه وافكاره علي مألوف الممارسات الشائعة في الكتابة والحديث عن إنتاج بعض المفكرين الذين لم يقرأوا جيدا وتصاغ عنهم صور اعلامية خاطئة! ممن لم يقرأوهم أو هؤلاء الذي ينقلون سماعيا عن بعضهم أنه قرأ أركون أو الجابري أو اروتيني أو,.. الخ بينما لا ظل لهذا الادعاء من الحقيقة! شاهدته في شتاء1984 عابرا ذات مرة في طريقه لالقاء درسه الاكاديمي في جامعة باريس الثالثة تحيط به هالة من الكبرياء والشعور بالعظمة لاتخطئه! التقيته في مؤتمر دولي في بالمادي مايوركا قبل تحطيم العراق وكان مدعوا للمشاركة والحوار مع سياسيين كبار واكاديميين بارزين وجيل جديد في مجال البحث في الحركات والظواهر السياسية الدينية كنت أمثله,وكان الموضوع يدور حول النزاعات وبينها ذات البعدالديني في حوض المتوسط كان معه صديقنا البروفيسور المبرز بسام طيبي, ورؤساء دول سابقون وحكومات ووزراء وسفراء وخبراء من دول المجموعة الأوروبية, وبعض الخبراء لتبادل الرأي حول موضوعات المؤتمر المغلق وفق تقاليد شاتم هاوس ذائعة الصيف.. قدمت مداخلتي ودار الحوار في الجلسة وشارك فيه واستكملناه بعدئذ علي الغداء ومعنا ايضا زميلنا البروفيسور محمد الباقي الهرماسي وزير الثقافة التونسي آنذاك وكان يرأس الجلسة. القيت اركون بعديذ في ندوة المؤسسة العربية للتحديث الفكري التي رأسها صديقنا الراحل المقيم نصر حامد أبوزيد, وجري بيننا حديث ثنائي حول بعض أطروحاته الرئيسية علي طاولة الغداء في حضور زوجته وبعض زملائنا المصريين وتدفق في شرح افكاره, وفي رده علي بعض الملاحظات النقدية. في المرة الثالثة شاركنا في أحدي ندوات معرض القاهرة للكتاب منذ ثلاث سنوات مضت أو أكثر قليلا! من ملاحظتي الشخصية أنه رجل مقل في الحديث, ولايمكن استدراجه بسهولة, أو اغواؤه للتداخل في حديث ما, أو حول عمله التأريخي والفلسفي والمعرفي حول الإسلام وأنساقه وتطوراته الفكرية وإشكالياته.. كان لايتحدث إلا مع من يقرر أن يتحدث معهم, واذا فرض عليه الكلام فلا يتفضل الا بعبارة أو عبارتين ويصمت هل هي محاولة للاعتصام بجلال الصمت وحكمته كي ينجو من فوائض اللغو والثرثرة التي يجيدها بعضهم في العالم العربي, ومن الخطابات الكفاحية ذات السند الديني الوضعي التي استكانت لطابعها ومنطوقها الشعاراتي ولغتها الحجرية الميتة! ربما! ثلاث لقاءت وحوارات وقبلها وبعدها قرأت اعماله التي شكلت مشروعا فكريا طموحا ربما لم يكتمل من وجهة نظري ومعي بعض الثقاة, وربما كانت هذه فرية كبري تتيح التعامل النقدي والتفكيكي للمشروع الأركوني, وبنياته التي تجري فيما وراء البنيات. كانت تسكنه غصة ومرارة ما, وربما هاجس ملح أن اعماله الفكرية لم تقرأ في العالم العربي! وأن اللغة العربية والترجمة لها قد تسيء الي المتن الفرنسي! كان يقولها بإصرار شديد في بالمادي مايوركا, وفي بيروت, والقاهرة. كنت أقول له يا أستاذ أركون أنت مقروء وخاصة بعد أن ترجمت من خلال عمل مقدر قام به صديقك وصديقنا د. هاشم صالح, لكن مقروئية إنتاجك العلمي التاريخي والسوسيولوجي والإنتربولوجي والفلسفي حول الإسلام تدور, شأن أعمال آخرين, في نطاق قاعدة محدودة من اقرانك وبعض تلاميذك ممن سبق أن اطلقت عليهم منتجي ومستهلكي الثقافة العالمةsavant والمتخصصة اساسا, وايضا قلة محدودة جدا من جماعات القراء المثقفين ثقافة رفيعة المستوي والتدريب, بكل انعكاسات وتأثيرات المجموعة الأولي وبعض الثانية. وقلت له إن القلة الاستثنائية عند قمة العقل العربي والإسلامي عليها أن تعترف بحدود انتشار هذا الإنتاج المعرفي المركب والمعقد علي صعد الخطاب التاريخي والفلسفي والديني والانثربولوجي سواء علي المستوي الأوروأمريكي, أو علي مستوي الجماعات الثقافية والأكاديمية العربية علي بؤس وضحالة متابعاتها العلمية والمعرفية. نعم ثمة ماهو أخطر لدي بعض هؤلاء ألا وهو خلطهم بين ادوار الباحث والناشط والمناضل والإيديولوجي والداعية والواعظ والخادم للسلطان الجمهوري والملكي والأميري والمشيخي والعمل لخدماتهم. كان الاستاذ أركون مهجوسا بأن عمله الأكاديمي والفكري غير معروف وغير مقروء عربيا, وأن بعضهم لم يقرأه لتعقيد وتركيب افكاره وجهازه المفاهيمي والاصطلاحي- ويصدر بعض الغلاة والمتشددين أحكاما قيمة اخلاقية حول جهده التأصيلي والتفكيكي المبرز! كانت ولاتزال اصطلاحات تفكيكي, أو بنيوي أو نظام المعرفة أو اللامفكرفيه, تبدو وكأنها شياطين الأنس والجن في أذهان بعضهم ويتعاملون معها بهياج, ورهاب, وتدفعهم لو صم عمله بالهرطقة الفكرية أو بالزيغ والخروج عن دائرة الفكر الاسلامي نمط معتاد وتقليدي من الممارسة الوصفية باسم الدين العظيم لا يزال يمارسها بعض ممن يتصورون أنفسهم نواب السماء والناطقين باسم المقدس القرآن تعالي منزله أو سنة الرسول الأكرم المعصوم والعياذ بالله, نستطيع أن نفسر محدودية انتشار المشروع الفكري الأركوني لعديد الاعتبارات وعلي رأسها تمثيلا لا حصرا مايلي من أسباب. 1 ان قراءة ومتابعة مشروعه تتطلب معرفة في العمق بالأجهزة المفاهيمية والاصطلاحية في فروع معرفية شتي, في المناهج الألسنية وليست فقط الفيولوجية وفق التقليد الاستشراقي, والتاريخية والفلسفية والانثربولوجية, وسوسيولوجيا الاديان, ولاسيما في هياكل المعرفة التي تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين والعشرية الأولي من القرن الحادي والعشرين. هي أمور يكاد لايعرفها أو يجيدها سوي قلة نادرة من العقول الاستثنائية في مصر والعالم العربي. 2 ان ترجمة أعماله الأساسية الكبري الي العربية عن الفرنسية تأخرت إلي منتصف عقد الثمانينيات, وما بعد القرن الماضي, ومن ثم تأخر الاطلاع عليها من قبل المهتمين بمشروعه الفكري, في وقت كان المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري ينتج وينشر عمله الكبير عن العقل العربي باللغة العربية مباشرة مما جذب اهتمام خاصة المثقفين العرب آنذاك, ولم يكن يعرف بمشروع اركون سوي أقل القليل من الباحثين والقراء.. في هذه المرحلة تابع نصر حامد أبو زيد مشروعه في تحليل ونقد الخطاب الديني وكتابات اخري أدت إلي حصاره ونفيه في هولندا.. من الشيق ملاحظة أن الاستاذ عبدالله الدوي وهو من هو كمؤرخ فعلا وفيلسوف, لم يعرف عربيا إلا بعد هزيمة يونيو1967 عن عمله المبرز الايديولوجية العربية المعاصرة الذي صدر قبلها في فرنسا, ثم ترجمه ترجمة غير وافية واضطر الدوي إلي كتابة بعض اعماله بالعربية واعادة النظر في ترجمة الايديولوجية العربية, وكتب أخري بنفسه وكان آخر ما كتبه عن السنة والإصلاح. 3 ان مشروع أركون ركز في تقديري وارجو إلا اكون مخطئا علي التبشير المنهجي برسالته الفكرية وهو ضرورة الاطلاع وفهم وممارسة استخدام الأجهزة المفهومية المعاصرة التي تتطلب عقلا موسوعيا في زمن انتهت فيه النزعة الموسوعية والموسوعيين قادرا علي الدرس والاستيعاب والتمثل وهضم الانتاج المعرفي في مجالات شتي, من ناحية ثانية كانت تطبيقات هذا المشروع تمثل الجزء الأقل منه الذي حاول من خلاله تحرير العقل الاسلامي العربي من معتقلاته التاريخية والوضعية والذهنية والمدرسية, وأساليب تفكيره ومناهجه وطرائق اشتغاله, وسعي إلي بحث اللامفكر فيه, من ناحية أخري سعي إلي اعادة النظر وبحث وتفكيك المنظومات والتقاليد والتراث الفقهي والمذهبي والتاريخي والمنهجي التي سادت تاريخيا بل وتاريخ تطور الأفكار الاسلامية وفق المناهج التقليدية الوصفية وليس من خلال تحليل المتطورات وأساليب التفكير والاسئلة والمناهج التي استخدمت في كل مرحلة وداخل كل مذهب أو مدرسة داخله, من ناحية موازية كانت الممارسة الفلسفية التاريخية والتفكيكية لحفريات الجابري في العقل العربي تتسم بالتنظير والتطبيق معا, ويبدو لي وارجو ألا اكون مخطئا أن اركون ادرك ذلك بعدئذ من خلال تأسيسه فرع دراسة الاسلاميات التطبيقية في جامعة السوربون الجديدة باريس الثالثة. 4 نقل انتاج أركون الفكري إلي العربية في عقد الثمانينيات اصطدم بهيمنة النزعة الكفاحية والحركية للاسلام السياسي وجماعاته, والتي أثرت علي بعض المؤسسات الدينية الرسمية واللارسمية في العالم العربي. كان أركون من أبرز الشخصيات الحاضرة في الحوارات بين الأديان عندما تجري بين الكبار وليس محض الممثلين الرسميين للأديان ومذاهبها, وشارك في نقد الاستشراق, وحاول التمييز بين الاسلام وبين ممارسات بعض الاسلاميين السياسيين وغيرهم التي اساءت ولاتزال إلي صور الاسلام في الاعلام والإدراك والوعي الغربي. كان اركون ولايزال عمله الفكري هو الأكثر تعقيدا وتركيبا في تكوينه الفكري والمعرفي المتعدد والمتداخل والمتشابك في آن, ويماثله في هذا الصدد الأستاذ الدوي الذي فاق غالب الآخرين في قدرته الفذة علي استخدام الآلات المعرفية والمنهجية الجبارة ونقدها, وتطبيقها علي نحو خلاق علي فكرنا التاريخي العربي اطال الله عمره عمل أركون النظري والتطبيقي كان موضع اهتمام القلة وهذا شأن المفكرين والفلاسفة والمثقفين الكبار.. الكبار.. من ناحية أخري كانت دائرة استيعاب الجابري وأبوزيد أكثر اتساعا لكتابتهم المباشرة بالعربية ومعرفتهم بسوسيولوجية القراءة والقراء العرب, المشروع الأركوني قدم ببراعة إلي بعض الباحثين والمثقفين العرب خرائط معرفية لتطور الأجهزة المفاهيمية والاصطلاحية والنظرية ومرجعياتها وشجرة انسابها وتطوراتها في دائرة انتاج المعرفة الاجتماعية والفلسفية ومناهجها ومقارباتها في فرنسا والمانيا وبريطانيا والولايات المتحدةالامريكية, اعتقد اننا لانزال امام مشروع يمتلك بعضا من الألق التاريخي والفلسفي, ومن ثم يملك في اهابه لحظة مستقبلية, ويفتح أبواب البحث عن سعة لمقاربات جديدة حول تاريخ الأفكار والمؤسسات الاسلامية, والمسكوت عنه أو اللامفكر فيه في هذا التاريخ الطويل. أحد الاسباب الاخري التي أثرت علي حضور أركون في مستويات جماهيرية واعلامية أوسع تمثلت في ان تركيزه علي تاريخ الأفكار والمؤسسات والفقه وعلم الكلام أدي إلي ابتعاده إلا قليلا وجزئيا عن الظواهر الخطابية والحركية والتنظيمية والايديولوجية للجماعات الاسلامية السياسية المعاصرة ومشروعاتها السياسية حول الخلافة أو الدولة الاسلامية والجدالات والسجالات التي اثرتها في دوائر السياسة والثقافة المصرية والعربية. نستطيع القول ان أركون واحد من أهم مفكري العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين دافع كثيرا في الدوائر الاكاديمية والسياسية الأوروبية والامريكية عن ضرورة فهم منصف للاسلام وذلك في كتاباته ومحاوراته بين الاديان, وستظل حية وملهمة لباحثين ومفكرين آخرين, وذلك علي الرغم من حضارة الايديولوجي والاعلامي في عصر ثقافةTOLKSHOW البرامج السجالية الحوارية المتلفزة علي الفضائيات العربية واشاعتها للكلام المجاني السهل والمسطح, ومن هنا ظهر مفكرو ونشطاء ومعلقو وشراح الفضائيات بديلا عن المفكرين والمثقفين الكبار إلا قليلا واستثناءات من امثال أركون وصحبيه. أركون ستظل ضوءا ضمن أضواء أخري ساطعة في عتمة العقل المعتقل بتعبير البولندي يورسولاف ميلوسوفيتش, حتي وإن كان مشروعه تحديثا خارجيا للعقل المسلم العربي.