تراجع مؤشرات البورصات الأوروبية مع ترقب المتداولين لبيانات التضخم الأمريكية    كتائب القسام تعلن فقدان الاتصال بمجموعة تحرس 4 من الرهائن الإسرائيليين    الترسانة يهزم ديروط ويكمل عقد المتأهلين للدورة الرباعية    مدرب توتنهام: 99% من جماهيرنا تريد الخسارة أمام مانشستر سيتي    المؤبد لسائق لاتهامه بقتل أخر بسبب حادث مروري بالقليوبية    السجن المؤبد للمتهم بقتل زوجته لتقديمها قربانا لفتح مقبرة أثرية بالفيوم    أشرف زكي عن خلافه مع طارق الشناوي: "بينا قضايا ولن أترك حقي" (فيديو)    وزير الصحة يبحث مع نظيره اليوناني فرص التعاون في تطوير وإنشاء مرافق الرعاية الصحية والسياحة العلاجية    وزير التعليم يحضر مناقشة رسالة دكتوراه لمدير مدرسة في جنوب سيناء لتعميم المدارس التكنولوجية    محافظ بورسعيد يبحث مع رئيس «تعمير سيناء» آخر مستجدات مشروعات التعاون المشتركة    سيارات بايك الصينية تعود إلى مصر عبر بوابة وكيل جديد    خطتان.. مصراوي يكشف أسماء الثلاثي فوق السن المنضمين للمنتخب الأولمبي في أولمبياد باريس    «عباس»: الهيئة تتخذ استراتيجية مستدامة لميكنة دورة العمل بالنيابة الإدارية    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه الروماني    برلماني: السياسات المالية والضريبية تُسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية    سفير واشنطن لدى إسرائيل ينفي تغير العلاقة بين الجانبين    بعد قليل.. انطلاق المؤتمر الجماهيري لاتحاد القبائل العربية بالمنصورية    حجز إعادة محاكمة المتهم بتزوير أوراق لتسفير عناصر الإرهاب للخارج للحكم    تعليم النواب توصي بدعم مستشفيات جامعة المنصورة ب 363 مليون جنيه    ميريت عمر الحريري تكشف تفاصيل إصابتها بالسرطان وكيف عالجت نفسها بالفن (فيديو)    السيسي يوجه رسالة عاجلة للمصريين بشأن المياه    المفتي للحجاج: ادعو لمصر وأولياء أمر البلاد ليعم الخير    مدير التأمين الصحي بالشرقية يعقد اجتماعا لمكافحة العدوى    «التعليم» تنبه على الطلاب المصريين في الخارج بسرعة تحميل ملفات التقييم    لماذا سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم؟.. الأزهر للفتوى يوضح    حكم كيني لمباراة مصر وبوركينا فاسو وسوداني لمواجهة غينيا بيساو    رئيس جامعة قناة السويس يتفقد كلية طب الأسنان (صور)    ما هو موعد عيد الاضحى 2024 في الجزائر؟    تعليم البحيرة: 196 ألف طالب وطالبة يؤدون امتحانات الشهادة الإعدادية وأولى وثانية ثانوي    وزيرة التضامن تشارك في أعمال المنتدى الدولي لريادة الأعمال ومبادرة العيش باستقلالية بالبحرين    موجة احتجاجات تعصف بوزراء الاحتلال في ذكرى «اليوم الوطني لضحايا معارك إسرائيل» (تفاصيل)    تنطلق السبت المقبل.. قصر ثقافة قنا يشهد 16 عرضا مسرحيا لمحافظات الصعيد    قمة مرتقبة بين رئيس كوريا الجنوبية ورئيس وزراء كمبوديا لبحث التعاون المشترك    محافظ سوهاج ورئيس هيئة النيابة الإدارية يوقعان بروتوكول تعاون    مناظرة بين إسلام بحيري وعبد الله رشدي يديرها عمرو أديب.. قريبا    ما حكم عدم الوفاء بالنذر؟.. الإفتاء توضح    وزير الرى: احتياجات مصر المائية تبلغ 114 مليار متر مكعب سنويا    الرعاية الصحية: لدينا 13 ألف كادر تمريضي بمحافظات التأمين الصحي الشامل    توقعات برج العقرب من يوم 13 إلى 18 مايو 2024: أرباح مالية غير متوقعة    الرئيس السيسي: الدولار كان وما زال تحديا.. وتجاوز المشكلة عبر زيادة الإنتاج    وزير الثقافة الفلسطيني السابق: موشي ديان هو أكبر سارق آثار في التاريخ    بدءا من 10 يونيو.. السكة الحديد تشغل قطارات إضافية استعدادا لعيد الأضحى    بنك التعمير والإسكان يرعى الملتقى التوظيفي 15 بجامعة أكتوبر للعلوم الحديثة    ختام ناجح لبطولة كأس مصر فرق للشطرنج بعدد قياسي من المشاركين    تشمل 13 وزيرًا.. تعرف على تشكيل الحكومة الجديدة في الكويت    التحليل الفني لمؤشرات البورصة المصرية اليوم الاثنين 13 مايو 2024    خلال 12 يوم عرض بالسينمات.. فيلم السرب يتجاوز ال24 مليون جنيه    شعبة الأدوية توجه نداء عاجلا لمجلس الوزراء: نقص غير مسبوق في الأدوية وزيادة المهربة    إنشاء مراكز تميز لأمراض القلب والأورام ومكتبة قومية للأمراض    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروع سد «جوليوس نيريري» الكهرومائية بتنزانيا    رئيس الغرفة التجارية: سوق ليبيا واعد ونسعى لتسهيل حركة الاستثمار    تداول 15 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة و806 شاحنات بموانئ البحر الأحمر    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية في ديرمواس ضمن «حياة كريمة»    فضل الأشهر الحرم في الإسلام: مواسم العبادة والتقرب إلى الله    أرتيتا يثني على لاعبي أرسنال    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    غلق شوارع رئيسية في مدينة نصر لمدة شهر.. ما السبب؟    "أوتشا": مقتل 27 مدنيًا وإصابة 130 في إقليم دارفور بغربي السودان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروع المفكر محمد أركون‏:‏محاولة في تحرير العقل المعتقل‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 09 - 2010

رجل قصير القامة يكلل هامته تاج من الشعر الأبيض الناصع‏,‏ ونظارة طبية وعقل كبير‏,‏ قليل الكلام مقتصد العبارة دقيق في خطابه الشفاهي الوجيز المترع بالمفاهيم. التي شكلت مسار التطور الألسني والسوسيولوجي والأنثربولوجي والفلسفي والثقافوي في النصف الثاني من القرن العشرين في ذات الوقت كان يمتلك معرفة راسخة واطلاعا واسعا وعميقا في التاريخ الإسلامي وعلوم الكلام والفقه وأصوله ومدارسه وفي المذاهب والعقائد الإسلامية‏,‏ وبنيات كاملة من التفسيرات والتأويلات والمتون والشروح عليها‏,‏ والشروح علي الشروح‏..‏ الخ‏..‏ والوضعية حول المقدس الإسلامي ومصادره‏.‏ كان لديه متابعة دقيقة وممارسة بحثية في العمق وانطلاق من نمط متميز من المقاربة النقدية والتفكيكية لمابعد البنيوية من فوكو الي داريدا‏..‏ الخ حيث مارسها علي نحوما في جسارة فكرية وروحية تليق بعقل يمتلك آلة تفكير وتحليل جبارة‏,‏ ومهجوس بأسئلة واهتمامات وموضوعات اشتغال العقل الإسلامي في التاريخ وسياقاته ومحمولاته وفاعليته ونقدها والبحث عن المسكوت عنه وغير المفكر فيه‏impense‏ لاسباب أيديولوجية محضة ولايعود ذلك إلي أن اللغة العربية قاصرة عن ذلك‏,‏ ولا لأن فكر المسلمين ضيق أو ضعيف بالطبيعة أو بشكل أزلي‏,‏ أوأنه غير قادر علي إدراك تلك الدرجة من التفكير والفهم‏.‏ لهذا السبب ألمح كثيرا كما قال في تاريخيه الفكر العربي الإسلامي علي ما لم يفكر فيه بعد في الفكر الإسلامي‏,‏ إما بسبب أن الفكر الإسلامي تنحصر مرحلته الإبداعية كلها في الأطر الفكرية الخاصة بالقرون الوسطي‏(‏ أي المنظومة المعرفية الخاصة بهذه الفترة‏)‏ وإما بسبب ماسيطر عليه من ضغوط ايديولوجية في صورة ارثوذكسيات دينية‏.(‏ م‏.‏س‏.‏ ز ص‏9,8).‏
من هنا عمل الي حد ما إلي إعادة فحص ماتواضعت عليه بعض المؤسسات الدينية وإنتاجها التاريخي الفقهي والتفسيري والكلامي والسجالي‏,.‏
ركز باكرا علي كتابات مرحلة تشكيل وتألق المدارس الفكرية الفقهية والكلامية في القرنين الرابع والخامس للهجرة‏,‏ أي القرنين الحادي والثاني عشر للميلاد‏.‏ من ناحية أخري كان من أبرز نقاد الإرث والتقاليد والممارسات الاستشراقية علي اختلافها علي عكس الصور التي إشاعها بعضهم عن إنتاجه وافكاره علي مألوف الممارسات الشائعة في الكتابة والحديث عن إنتاج بعض المفكرين الذين لم يقرأوا جيدا وتصاغ عنهم صور اعلامية خاطئة‏!‏ ممن لم يقرأوهم أو هؤلاء الذي ينقلون سماعيا عن بعضهم أنه قرأ أركون أو الجابري أو اروتيني أو‏,..‏ الخ بينما لا ظل لهذا الادعاء من الحقيقة‏!‏
شاهدته في شتاء‏1984‏ عابرا ذات مرة في طريقه لالقاء درسه الاكاديمي في جامعة باريس الثالثة تحيط به هالة من الكبرياء والشعور بالعظمة لاتخطئه‏!‏ التقيته في مؤتمر دولي في بالمادي مايوركا قبل تحطيم العراق وكان مدعوا للمشاركة والحوار مع سياسيين كبار واكاديميين بارزين وجيل جديد في مجال البحث في الحركات والظواهر السياسية الدينية كنت أمثله‏,‏وكان الموضوع يدور حول النزاعات وبينها ذات البعدالديني في حوض المتوسط كان معه صديقنا البروفيسور المبرز بسام طيبي‏,‏ ورؤساء دول سابقون وحكومات ووزراء وسفراء وخبراء من دول المجموعة الأوروبية‏,‏ وبعض الخبراء لتبادل الرأي حول موضوعات المؤتمر المغلق وفق تقاليد شاتم هاوس ذائعة الصيف‏..‏ قدمت مداخلتي ودار الحوار في الجلسة وشارك فيه واستكملناه بعدئذ علي الغداء ومعنا ايضا زميلنا البروفيسور محمد الباقي الهرماسي وزير الثقافة التونسي آنذاك وكان يرأس الجلسة‏.‏ القيت اركون بعديذ في ندوة المؤسسة العربية للتحديث الفكري التي رأسها صديقنا الراحل المقيم نصر حامد أبوزيد‏,‏ وجري بيننا حديث ثنائي حول بعض أطروحاته الرئيسية علي طاولة الغداء في حضور زوجته وبعض زملائنا المصريين وتدفق في شرح افكاره‏,‏ وفي رده علي بعض الملاحظات النقدية‏.‏ في المرة الثالثة شاركنا في أحدي ندوات معرض القاهرة للكتاب منذ ثلاث سنوات مضت أو أكثر قليلا‏!‏ من ملاحظتي الشخصية أنه رجل مقل في الحديث‏,‏ ولايمكن استدراجه بسهولة‏,‏ أو اغواؤه للتداخل في حديث ما‏,‏ أو حول عمله التأريخي والفلسفي والمعرفي حول الإسلام وأنساقه وتطوراته الفكرية وإشكالياته‏..‏ كان لايتحدث إلا مع من يقرر أن يتحدث معهم‏,‏ واذا فرض عليه الكلام فلا يتفضل الا بعبارة أو عبارتين ويصمت هل هي محاولة للاعتصام بجلال الصمت وحكمته كي ينجو من فوائض اللغو والثرثرة التي يجيدها بعضهم في العالم العربي‏,‏ ومن الخطابات الكفاحية ذات السند الديني الوضعي التي استكانت لطابعها ومنطوقها الشعاراتي ولغتها الحجرية الميتة‏!‏ ربما‏!‏ ثلاث لقاءت وحوارات وقبلها وبعدها قرأت اعماله التي شكلت مشروعا فكريا طموحا ربما لم يكتمل من وجهة نظري ومعي بعض الثقاة‏,‏ وربما كانت هذه فرية كبري تتيح التعامل النقدي والتفكيكي للمشروع الأركوني‏,‏ وبنياته التي تجري فيما وراء البنيات‏.‏ كانت تسكنه غصة ومرارة ما‏,‏ وربما هاجس ملح أن اعماله الفكرية لم تقرأ في العالم العربي‏!‏ وأن اللغة العربية والترجمة لها قد تسيء الي المتن الفرنسي‏!‏ كان يقولها بإصرار شديد في بالمادي مايوركا‏,‏ وفي بيروت‏,‏ والقاهرة‏.‏ كنت أقول له يا أستاذ أركون أنت مقروء وخاصة بعد أن ترجمت من خلال عمل مقدر قام به صديقك وصديقنا د‏.‏ هاشم صالح‏,‏ لكن مقروئية إنتاجك العلمي التاريخي والسوسيولوجي والإنتربولوجي والفلسفي حول الإسلام تدور‏,‏ شأن أعمال آخرين‏,‏ في نطاق قاعدة محدودة من اقرانك وبعض تلاميذك ممن سبق أن اطلقت عليهم منتجي ومستهلكي الثقافة العالمة‏savant‏ والمتخصصة اساسا‏,‏ وايضا قلة محدودة جدا من جماعات القراء المثقفين ثقافة رفيعة المستوي والتدريب‏,‏ بكل انعكاسات وتأثيرات المجموعة الأولي وبعض الثانية‏.‏ وقلت له إن القلة الاستثنائية عند قمة العقل العربي والإسلامي عليها أن تعترف بحدود انتشار هذا الإنتاج المعرفي المركب والمعقد علي صعد الخطاب التاريخي والفلسفي والديني والانثربولوجي سواء علي المستوي الأوروأمريكي‏,‏ أو علي مستوي الجماعات الثقافية والأكاديمية العربية علي بؤس وضحالة متابعاتها العلمية والمعرفية‏.‏ نعم ثمة ماهو أخطر لدي بعض هؤلاء ألا وهو خلطهم بين ادوار الباحث والناشط والمناضل والإيديولوجي والداعية والواعظ والخادم للسلطان الجمهوري والملكي والأميري والمشيخي والعمل لخدماتهم‏.‏ كان الاستاذ أركون مهجوسا بأن عمله الأكاديمي والفكري غير معروف وغير مقروء عربيا‏,‏ وأن بعضهم لم يقرأه لتعقيد وتركيب افكاره وجهازه المفاهيمي والاصطلاحي‏-‏ ويصدر بعض الغلاة والمتشددين أحكاما قيمة اخلاقية حول جهده التأصيلي والتفكيكي المبرز‏!‏ كانت ولاتزال اصطلاحات تفكيكي‏,‏ أو بنيوي أو نظام المعرفة أو اللامفكرفيه‏,‏ تبدو وكأنها شياطين الأنس والجن في أذهان بعضهم ويتعاملون معها بهياج‏,‏ ورهاب‏,‏ وتدفعهم لو صم عمله بالهرطقة الفكرية أو بالزيغ والخروج عن دائرة الفكر الاسلامي
نمط معتاد وتقليدي من الممارسة الوصفية باسم الدين العظيم لا يزال يمارسها بعض ممن يتصورون أنفسهم نواب السماء والناطقين باسم المقدس القرآن تعالي منزله أو سنة الرسول الأكرم المعصوم والعياذ بالله‏,‏ نستطيع أن نفسر محدودية انتشار المشروع الفكري الأركوني لعديد الاعتبارات وعلي رأسها تمثيلا لا حصرا مايلي من أسباب‏.‏
‏1‏ ان قراءة ومتابعة مشروعه تتطلب معرفة في العمق بالأجهزة المفاهيمية والاصطلاحية في فروع معرفية شتي‏,‏ في المناهج الألسنية وليست فقط الفيولوجية وفق التقليد الاستشراقي‏,‏ والتاريخية والفلسفية والانثربولوجية‏,‏ وسوسيولوجيا الاديان‏,‏ ولاسيما في هياكل المعرفة التي تشكلت في النصف الثاني من القرن العشرين والعشرية الأولي من القرن الحادي والعشرين‏.‏ هي أمور يكاد لايعرفها أو يجيدها سوي قلة نادرة من العقول الاستثنائية في مصر والعالم العربي‏.‏
‏2‏ ان ترجمة أعماله الأساسية الكبري الي العربية عن الفرنسية تأخرت إلي منتصف عقد الثمانينيات‏,‏ وما بعد القرن الماضي‏,‏ ومن ثم تأخر الاطلاع عليها من قبل المهتمين بمشروعه الفكري‏,‏ في وقت كان المرحوم الأستاذ محمد عابد الجابري ينتج وينشر عمله الكبير عن العقل العربي باللغة العربية مباشرة مما جذب اهتمام خاصة المثقفين العرب آنذاك‏,‏ ولم يكن يعرف بمشروع اركون سوي أقل القليل من الباحثين والقراء‏..‏ في هذه المرحلة تابع نصر حامد أبو زيد مشروعه في تحليل ونقد الخطاب الديني وكتابات اخري أدت إلي حصاره ونفيه في هولندا‏..‏ من الشيق ملاحظة أن الاستاذ عبدالله الدوي وهو من هو كمؤرخ فعلا وفيلسوف‏,‏ لم يعرف عربيا إلا بعد هزيمة يونيو‏1967‏ عن عمله المبرز الايديولوجية العربية المعاصرة الذي صدر قبلها في فرنسا‏,‏ ثم ترجمه ترجمة غير وافية واضطر الدوي إلي كتابة بعض اعماله بالعربية واعادة النظر في ترجمة الايديولوجية العربية‏,‏ وكتب أخري بنفسه وكان آخر ما كتبه عن السنة والإصلاح‏.‏
‏3‏ ان مشروع أركون ركز في تقديري وارجو إلا اكون مخطئا علي التبشير المنهجي برسالته الفكرية وهو ضرورة الاطلاع وفهم وممارسة استخدام الأجهزة المفهومية المعاصرة التي تتطلب عقلا موسوعيا في زمن انتهت فيه النزعة الموسوعية والموسوعيين قادرا علي الدرس والاستيعاب والتمثل وهضم الانتاج المعرفي في مجالات شتي‏,‏ من ناحية ثانية كانت تطبيقات هذا المشروع تمثل الجزء الأقل منه الذي حاول من خلاله تحرير العقل الاسلامي العربي من معتقلاته التاريخية والوضعية والذهنية والمدرسية‏,‏ وأساليب تفكيره ومناهجه وطرائق اشتغاله‏,‏ وسعي إلي بحث اللامفكر فيه‏,‏ من ناحية أخري سعي إلي اعادة النظر وبحث وتفكيك المنظومات والتقاليد والتراث الفقهي والمذهبي والتاريخي والمنهجي التي سادت تاريخيا بل وتاريخ تطور الأفكار الاسلامية وفق المناهج التقليدية الوصفية وليس من خلال تحليل المتطورات وأساليب التفكير والاسئلة والمناهج التي استخدمت في كل مرحلة وداخل كل مذهب أو مدرسة داخله‏,‏ من ناحية موازية كانت الممارسة الفلسفية التاريخية والتفكيكية لحفريات الجابري في العقل العربي تتسم بالتنظير والتطبيق معا‏,‏ ويبدو لي وارجو ألا اكون مخطئا أن اركون ادرك ذلك بعدئذ من خلال تأسيسه فرع دراسة الاسلاميات التطبيقية في جامعة السوربون الجديدة باريس الثالثة‏.‏
‏4‏ نقل انتاج أركون الفكري إلي العربية في عقد الثمانينيات اصطدم بهيمنة النزعة الكفاحية والحركية للاسلام السياسي وجماعاته‏,‏ والتي أثرت علي بعض المؤسسات الدينية الرسمية واللارسمية في العالم العربي‏.‏
كان أركون من أبرز الشخصيات الحاضرة في الحوارات بين الأديان عندما تجري بين الكبار وليس محض الممثلين الرسميين للأديان ومذاهبها‏,‏ وشارك في نقد الاستشراق‏,‏ وحاول التمييز بين الاسلام وبين ممارسات بعض الاسلاميين السياسيين وغيرهم التي اساءت ولاتزال إلي صور الاسلام في الاعلام والإدراك والوعي الغربي‏.‏ كان اركون ولايزال عمله الفكري هو الأكثر تعقيدا وتركيبا في تكوينه الفكري والمعرفي المتعدد والمتداخل والمتشابك في آن‏,‏ ويماثله في هذا الصدد الأستاذ الدوي الذي فاق غالب الآخرين في قدرته الفذة علي استخدام الآلات المعرفية والمنهجية الجبارة ونقدها‏,‏ وتطبيقها علي نحو خلاق علي فكرنا التاريخي العربي اطال الله عمره عمل أركون النظري والتطبيقي كان موضع اهتمام القلة وهذا شأن المفكرين والفلاسفة والمثقفين الكبار‏..‏ الكبار‏..‏ من ناحية أخري كانت دائرة استيعاب الجابري وأبوزيد أكثر اتساعا لكتابتهم المباشرة بالعربية ومعرفتهم بسوسيولوجية القراءة والقراء العرب‏,‏ المشروع الأركوني قدم ببراعة إلي بعض الباحثين والمثقفين العرب خرائط معرفية لتطور الأجهزة المفاهيمية والاصطلاحية والنظرية ومرجعياتها وشجرة انسابها وتطوراتها في دائرة انتاج المعرفة الاجتماعية والفلسفية ومناهجها ومقارباتها في فرنسا والمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية‏,‏ اعتقد اننا لانزال امام مشروع يمتلك بعضا من الألق التاريخي والفلسفي‏,‏ ومن ثم يملك في اهابه لحظة مستقبلية‏,‏ ويفتح أبواب البحث عن سعة لمقاربات جديدة حول تاريخ الأفكار والمؤسسات الاسلامية‏,‏ والمسكوت عنه أو اللامفكر فيه في هذا التاريخ الطويل‏.‏
أحد الاسباب الاخري التي أثرت علي حضور أركون في مستويات جماهيرية واعلامية أوسع تمثلت في ان تركيزه علي تاريخ الأفكار والمؤسسات والفقه وعلم الكلام أدي إلي ابتعاده إلا قليلا وجزئيا عن الظواهر الخطابية والحركية والتنظيمية والايديولوجية للجماعات الاسلامية السياسية المعاصرة ومشروعاتها السياسية حول الخلافة أو الدولة الاسلامية والجدالات والسجالات التي اثرتها في دوائر السياسة والثقافة المصرية والعربية‏.‏
نستطيع القول ان أركون واحد من أهم مفكري العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين دافع كثيرا في الدوائر الاكاديمية والسياسية الأوروبية والامريكية عن ضرورة فهم منصف للاسلام وذلك في كتاباته ومحاوراته بين الاديان‏,‏ وستظل حية وملهمة لباحثين ومفكرين آخرين‏,‏ وذلك علي الرغم من حضارة الايديولوجي والاعلامي في عصر ثقافة‏TOLKSHOW‏ البرامج السجالية الحوارية المتلفزة علي الفضائيات العربية واشاعتها للكلام المجاني السهل والمسطح‏,‏ ومن هنا ظهر مفكرو ونشطاء ومعلقو وشراح الفضائيات بديلا عن المفكرين والمثقفين الكبار إلا قليلا واستثناءات من امثال أركون وصحبيه‏.‏ أركون ستظل ضوءا ضمن أضواء أخري ساطعة في عتمة العقل المعتقل بتعبير البولندي يورسولاف ميلوسوفيتش‏,‏ حتي وإن كان مشروعه تحديثا خارجيا للعقل المسلم العربي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.