رحل الفيلسوف وعالم الانثروبولوجيا الفرنسي " كلود ليفي شتراوس " عن مائة عام وعام (1908 - 2009 ) بعد أن أوسع العالم بحثا واستكشافا للبني الخفية للميتافيزيقا الغربية ، وأفاض في الحديث عنها في سيرته الفكرية " المدارات الحزينة " عام 1955 ، ومؤلفاته الأخري ، ومنها : " البنيات الأساسية للقرابة " 1949 ، و" الأنثروبولوجيا البنيوية 1958 ، و"الفكر البدائي" 1962، و"الطوطمية اليوم "1962 ، و"الميثولوجيات" بأجزائه الأربعة بين 1964 و1971، وهي : "النيء والمطبوخ" و"من العسل إلي الرماد" و"أصل آداب المائدة" و"الإنسان العاري" . اسهام " ليفي شتراوس " في الفلسفة المعاصرة تمثل أساسا في أنه أوحي لفلاسفة الاختلاف في فرنسا ، والعالم : "بأن وجود الأشياء المقدسة في أماكنها هو ما يجعل منها مقدسة، لأنها لو انتزعت من أماكنها، حتي لو فكريا، لتدمر نظام العالم بأكمله. لذلك فالأشياء المقدسة تسهم في إبقاء العالم علي نظامه، باحتلالها المواضع التي وضعت فيها" . من هنا انخرط " ميشيل فوكو " ، علي سبيل المثال ، في تعرية مؤسسات الحضارة الغربية بشكل أركيولوجي - Archeologie ( حفري ) ، مثل مؤسسة المصح العقلي والسجن والمدرسة والجامعة، وسائر المؤسسات البورجوازية التي تهدف إلي تدجين الناس وتطويعهم فكريا وجسديا ؛ ومكنه هذا المنهج الاركيولوجي من الكشف عن "الآخر" المقموع من خلال تعرية آليات القمع داخل المجتمع الغربي . وفي كتاب "الكلمات والأشياء" عام 1966، أثبت فوكو أن العلوم الإنسانية هي التي خلعت المشروعية علي النظام الحديث مثلما أن الفكر الديني المسيحي كان يخلع المشروعية علي " قمع" النظام القديم. وهكذا حاول الكشف عن أنه في كل حقبة تاريخية هناك خلفيات هي الأساس الذي تبني عليه المعرفة، والبحث عن مجمل هذه الخلفيات يشكل "القبلية التاريخية". مما يعني أن هناك نظامًا خفيا وراء الظواهر المختلفة ، هو الذي يشكل الشرط الشارط الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك خطاب حول الأشياء يعكس حقيقتها ، أو بالأحري يعترف به كخطاب مطابق للحقيقة. وذهب " جاك دريدا " في استراتيجيته في " التفكيك " Deconstruction - ، إلي أبعد مما ذهب إليه فوكو في نقده للميتافيزيقا الغربية ، ذلك لأن أية بنية تنظم تجربتنا - أدبية أم سيكولوجية أم اجتماعية أم سياسية أم دينية - إنما تتشكل وتنمو وتستمر من خلال عملية "إقصاء". ففي عملية خلق شيء ما سيكون حتميا إغفال شيء آخر. وهذه البني الاقصائية، قابلة أن تصير "قمعية"، وهو قمع تترتب عليه "آثار" عديدة وخطيرة . وكما سبق ونبهنا "فرويد" إلي العلاقة بين القمع والتخفي، يؤكد دريدا علي أن ما يقمع لا يختفي لكنه يعود دائمًا كي يزلزل كل البناء القائم، مهما كانت درجة الاستقرار التي يبدو عليها. ولاحظ دريدا ، مستلهما أفكار ليفي شتراوس : "إن المشروع الاستعماري الغربي، لم يتأسس علي الغزو الجسدي فقط لأراضي وشعوب " أخري"، بقدر ما تأسس علي حيازة "آخريتهم" - Otherness. لقد تم تشكيل الآخر من لدن الخطاب الاستعماري باعتباره ذاتًا فاقدة للذاتية، فهو ذات منذورة للتواجد في حالة وجود غير أصيل. هكذا تحددت هندسة الشكل، أو العلاقة بين "الذات" و "الآخر" في الميتافيزيقا الغربية ، فالمركز الذي حدد موقعه كمركز (الذات)، فرض علي "الآخر" أن يكون بلا مركز، لأنه ليس للدائرة سوي مركز واحد. وتتبع العلوم الإنسانية بشكل عام هذه الخريطة الهندسية، وتؤكد علي أولوية شكل العلاقة علي العلاقة ذاتها. فالانثروبولوجي الغربي مثلاً، حيث يدرس "الآخر"، ليس من أجل أن يكتشفه في "اختلافه" كآخر، وإنما يدرسه ليؤكد فيه كل ما يثبت ويعيد إنتاج "مركزيته"، مقابل إعادة إنتاج "هامشية" الآخر. ليس عند هذا "الآخر" ما يمكن أن يشكل مادة أي اكتشاف، وهو ليس بدائيا ومتخلفًا وغريبًا، إلا لأن ثمة إنسانًا واحدًا هو الإنسان الغربي فقط. أما "الآخر" فهو المختلف واختلافه هذا يخرجه من خانة "الإنسان"، وبهذا المعني فهو خارج التاريخ، الذي لا يحق لأحد أن يكون له تاريخ إلا الغربي وحده. فالأنثروبولوجيا هي علم الإنسان الغربي بالنسبة إلي ذاته أولاً، وعندما يدرس الآخر فهو يعيد إنتاج نفسه هو، عبر إخضاع "الآخر" لمنهجيات العلوم الإنسانية التي تعتبر المحصلة التركيبية العليا لتلك الميتافيزيقا Metaphysics ذاتها التي تقود الحداثة الغربية ، ولعل هذا هو أهم ما نجده عند " كلود ليفي شتراوس " الذي نال احترام العالم أجمع .