عندما بلغني خبر رحيله، كنت وحيدا في مكان بعيد يتمتّع بالعزلة، شملني هدوء ساكن جزع أثار في نفسي شعور يقترب من الرهبة وتبرّدت عيناي بدمعة خاطفة !هو بعض من أهلي وأهل كلّ المصريين، وما الضجيج ومراسم العزاء إلاّ الواجب وبعض من سلوكنا النشط الذي نتّخذه نحو أعزّائنا وأصدقائنا وإخوتنا في البشريّة . وفي المساء جمدت في سريري أجفل وأنا أفكّر في أسامة، تيتّم في سن صغيرة،مضي في الحياة وحصل علي ليسانس الآداب من قسم الدراسات النفسية والاجتماعية بجامعة عين شمس عام1962، عمل بعد تخرجه أخصائيًا اجتماعيًا في مؤسسة لرعاية الأحداث، ثم عمل مدرسًا في مدرسة بمحافظة أسيوط وذلك بالفترة من عام 1963 إلي عام 1964، ثم انتقل للعمل بإدارة العلاقات العامة بديوان محافظة كفر الشيخ وذلك في الفترة من عام 1964 إلي عام 1966، انتقل بعدها للعمل كإخصائي اجتماعي في رعاية الشباب بجامعة الأزهر وذلك من عام 1966 إلي عام 1982 عندما قدم استقالته ليتفرغ للكتابة والتأليف. عشرون عاما قضاهافي أعمال استمرّ ويستمرّ في أدائها آلاف من زملائه، لم يكتبوا ولم يؤلفّوا أو فعلوا ذلك فلم يظهر إلي النور إبداعهم، فلم يلفتوا نظرنا ولااسترعتنا أخبار حياتهم ولاموتهم لماذا؟ ومايقرب من ثلاثين عاما قضاها أسامة في الكتابة اجتذبت أسماعنا وعيوننا ثمّ عقولنا ! وددت لوجعلت لهذا الذي يعجز عن الكلام لسانا ينطق بالأسرار التي تختبئ، فلانعرف عنها شيئاحين يتلقّف أحدنا الموت، الذي يظلّل حياتنا منذ أن نبذر في أرحام أمهاتنا، فيظلّ صوته عاليا. كانت فكرة جسورة، أن يستمرّ السيناريست ، كاتب الدراما التليفزيونيّة في التأليف بعد أن مات ! رأيت روحه وقد انسكب في داخلها شيء رقيق عادل وطيّب،لم يمت أسامة فجأة ولا علي حين غرّة، دبّ فيه الموت بطيئا مع مرضه بالسرطان،وفي آخر أيّامه وضع علي جهاز التنفّس الصناعي ..كلّ شيء زال الآن،وظهر الكاتب الذي تعامل مع الناس علي أنّهم كلّهم فلاسفة بشكل «ما» ، الباشا والعمدة والعامل في ليالي الحلميّة، أبله حكمت وضميرها في مسلسل بهذا الاسم، البرنس وعمدة بشنين وشيخ خفرائه في المصراويّة.. ولو تتّبعنا المؤلّفات جميعها، لكان أهمّ اكتشافاتنا أنّ أسامة كان قادرا علي إسعادنا ونحن نلتف حول التليفزيون من المحيط إلي الخليج مع حوار استطاع أن يوحدّنا مع شخصيّاته التي استنبطها غالبا من حياتنا، فبدونا وكأنّ كلّ واحدفينا ، كلّ رجل وامرأة ،كلّ فتي وفتاة هو الذي يسعي علي الشاشة ! نظر إلي بفرح طفولي وظهر علي درجة عالية من الصفاء، كنت أنا الذي سألته:هل تعتقد أنّك عشت حياتك بدون طائل تلحظ كلّ شيء ؟ وممّا لاشكّ فيه أنّ الكلمات التي جمعتنا حولها في مسلسلاتك ، هي نفس الكلمات التي تفرّقنا،من قبيل الحبّ والعلم والحرّية والعدالة والخير والشرّ والمطامع والأنانيّة.. وأخيرا الموت ،وكلّ واحد منّا ينتظر السعادة! فهل هذا البحث عن السعادة هو الذي انتزعك من السرب، ملايين النّاس الذين كنت تمضي واحدامنهم وكان من الممكن أن تستمرّمجهولا في صفوفهم؟ اعتقد أنّك عرفت النجاح لأنّك أخلصت في البحث عن المغزي العظيم لكلمة السعادة، إنّها تبرهن علي الأهمّيّة الكبيرة لنشاطنا! نفكّر ونحبّ ونحزن ونتألّم ونصلّي ونخترع ..نمشي ونتأمّل، ونبدي إعجابنا حين تغرب الشمس وبالمساء وبالقمر والنجوم ، وحين تشرق وبالبحر والنهروكلّ غيمة في السماء،وكلّ زهرة وعشبة علي وجه الأرض.. نأكل ونشرب ونتصارع ، نبدع ، نحاكي ونحكي ونرسم ونغنّي ونرقص ونلحّن .. ثمّ تنكص أو تخفت الهجمة التأملّيّة التي تثيرها وفاتك، والعديدون يحتلّون أماكن بارزة في سرادق العزاء ، يبدون الخشوع والورع والندم ،ينصتون إلي الآيات المقدّسة يرتّلها الفقهاء بأصوات يتبارون في إظهار جمالها في نقل العظة والعبرة عبر مكبّرات الصوت .. إذا حضر أحدكم الموت .. مجرّد مظهر من مظاهر الحياة! فليس ثمّة ميّت يرتجف خوفا وهويدخل القبر ،وليس في جثّة الميّت عنصر من العناصر لاوجود له في مادّة الأرض التي عاد إليها !