رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة بسبب سوء الأحوال الجوية وتعطيل العمل غدًا    مكتبة مصر العامة بالأقصر تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء.. صور    وزير الصحة يهنئ إيهاب هيكل ومجلس «أطباء الأسنان» للفوز في انتخابات النقابة    إزالة 27 حالة تعدٍّ على أراضي الدولة ضمن حملات الموجة ال 22 في الشرقية    جامعة القاهرة تناقش دور الملكية الفكرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة    غدًا.. قطع المياه عن قريتين ببني سويف لاستكمال مشروعات حياة كريمة    محافظ كفرالشيخ: استلام 47 ألف طن بشون وصوامع الأقماح    مصر تستهدف بيع أصول حكومية قيمتها 3.6 مليار دولار بالعام المالي المقبل    «الجارديان» عن مسؤول أممي: العدوان الإسرائيلي على غزة خلف 37 مليون طن من الأنقاض    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان    برقم مثير.. محمد عبد المنعم ومعلول يبصمان على ثنائية تاريخية في الأهلي    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    بيريرا يكشف حقيقة رفع قضية ضد حكم دولي في المحكمة الرياضية    تفاصيل 9 ضوابط استعدادًا لامتحانات الشهادة الإعدادية    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    طبيب نفسي يوضح الأسباب وراء قضية مقتل طفل شبرا    الإعدام والمؤبد للمتهمين باللجان النوعية في المنوفية    وزيرة التضامن: فخورة بتقديم برنامج سينما المكفوفين بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    الليلة.. أصالة تلتقى جمهورها فى حفل بأبو ظبي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    الصحة: فرق الحوكمة نفذت 346 مرور على مراكز الرعاية الأولية لمتابعة صرف الألبان وتفعيل الملف العائلي    رئيس البرلمان العربي يكرم نائب رئيس الوزراء البحريني    محافظة القاهرة تكثف حملات إزالة الإشغالات والتعديات على حرم الطريق    السيسي يتفقد الأكاديمية العسكرية بالعاصمة الإدارية ويجري حوارًا مع الطلبة (صور)    التنمية المحلية: تدريب 2034 قيادة علي منظومة التصالح في مخالفات البناء بالمحافظات    كرة اليد، موعد مباراة الزمالك والترجي في نهائي بطولة أفريقيا    مديرية الشباب بالشرقية تنفذ دورات لطرق التعامل مع المصابين    خالد بيبو: لست ناظر مدرسة «غرفة ملابس الأهلي محكومة لوحدها»    «شريف ضد رونالدو».. موعد مباراة الخليج والنصر في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    بعد فتح التصدير.. «بصل سوهاج» يغزو الأسواق العربية والأوروبية    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    رئيس جهاز العاصمة الإدارية يجتمع بممثلي الشركات المنفذة لحي جاردن سيتي الجديدة    تعليم الإسكندرية تستقبل وفد المنظمة الأوروبية للتدريب    سياحة أسوان: استقرار الملاحة النيلية وبرامج الزيارات بعد العاصفة الحمراء | خاص    تحرير 134 محضرا وضبط دقيق بلدي قبل بيعه بالسوق السوداء في المنوفية    قوافل بالمحافظات.. استخراج 6964 بطاقة رقم قومي و17 ألف "مصدر مميكن"    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    أبو الغيط: الإبادة في غزة ألقت عبئًا ثقيلًا على أوضاع العمال هناك    هيئة شئون الأسرى الفلسطينيين: الوضع في سجون الاحتلال كارثي ومأساوي    حان وقت الصفقة.. تحرك جديد لعائلات الرهائن الإسرائيليين في تل أبيب    بسبب البث المباشر.. ميار الببلاوي تتصدر التريند    وزيرة التضامن توجه تحية لمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بسبب برنامج المكفوفين    خبيرة: يوم رائع لمواليد الأبراج النارية    الليلة.. أحمد سعد يحيي حفلا غنائيا في كندا    وسط اعتقال أكثر من 550.. الاحتجاجات الطلابية المناهضة لإسرائيل بالجامعات الأمريكية ترفض التراجع    بيان عاجل لهيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة ويأثم فاعله    «بيت الزكاة» يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة ضمن حملة إغاثة غزة    متصلة تشكو من زوجها بسبب الكتب الخارجية.. وداعية يرد    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    هل يوجد تعارض بين تناول التطعيم وارتفاع حرارة الجسم للأطفال؟ هيئة الدواء تجيب    الكشف على 165 مواطنًا خلال قافلة طبية بالزعفرانة وعرب عايش برأس غارب    طلب إحاطة يحذر من تزايد معدلات الولادة القيصرية    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    وزير الخارجية يتوجه إلى الرياض للمشاركة في أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية عزازيل ليوسف زيدان الفائزة بالبوكر العربية
نشر في الشروق الجديد يوم 20 - 03 - 2009


الرق الثلاثون
الفقد
بعدما تهيأت للنوم، سمعت صوت الشماس يأتى خفيضا من وراء الباب: هل أنت نائم يا سيدى؟.. دعوته للدخول، فجاء وفى يده قطعة من قماش أسود. مدها إلى، فمددتها بين يدى. كانت صديرية سوداء اللون محلاة من عند أطرافها بصلبان من الغزل ذاته، لونها رمادى. عرفت بالأمر من فورى، وزادنى الشماس إيضاحا وتأكيدا: لقد رحلت مرتا وخالتها قبل أسبوع، وتركت العجوز لى هديتها مع الشماس، وتركت مرتا معه رسالة من كلمة واحدة: مضطرة!
اضطرت مرتا للذهاب إلى حلب! أى اضطرار حدا بها للرحيل، والحمى تفتك بى؟ ألم يكن بوسعها أن تنتظرنى بضعة أيام أخر؟ لابد أنها يئست من شفائى، وتيقنت من أننى هالك لا محالة.. تركتنى لموتى، وذهبت لتبحث لها عن حياة. هذا شأن النساء كلهن كما أكد الفريسى خائنات، ولا خلاق لهن. هو أعرف منى بأحوالهن. الآن تيقنت من أننى ضللت نفسى بأوهام صنعتها، وأتيت مع مرتا خطايا لا غفران لها. هى أخرجتنى من كونى، ثم هجرتنى حين ظنت أننى أموت، ياليتنى مت واسترحت.
أخذوا معهم كل متاعهم، لا أظن يا أبت أنهم سيرجعون للعيش هنا.
نعم يا شماس، هذا واضح.
هل ترى يا أبت، أن أستسمح رئيس الدير فى سكنى فى الكوخ؟
يا شماس، أنت صغير على العيش منفردا، بقاؤك فى بيت الكهان أصلح لك.. اتركنى الآن لأنام.
نادنى إن احتجت لى يا أبت، سأكون قريبا.
تركنى الشماس بعدما دعوت له بالبركة، ودعوت الله فى نفسى أن يأخذنى منها لأستريح، كان رأسى يطن، فلم أستطع النوم إلا وسنات خاطفة، وكانت غفواتى توجعنى. وجع النوم علامة رديئة، كما هو معروف عند الأطباء من كلام أبقراط: إذا كان النوم فى الأمراض المزمنة، يحدث وجعا، فذلك من علامات الموت.. ليكن، فموتى وحياتى صارا عندى سواء، وربما الموت أفضل! غير أننى برئت من حماى، مزمنة كانت أم حادة. وآلام النوم عندى، هى من أوجاع الروح لا آثار الحمى.
قمت من فوق الدكة واستغرقت فى الصلاة. أديت صلاة سوتورو قبل موعدها، وأخذت أعيدها حتى سكن الليل. وحتى تأكدت، أنها لا تفعل شيئا.. كنت أشعر بعزازيل قريبا منى، أكثر من أى وقت مضى. هو إذن، لم يكن حلما ولا طيفا مر بى عند اختلاط ذهنى، مع نوبات المرض. هو الآن قريب، أشعر به ينظر نحوى، ولا يتكلم، أترانى ألقيت نفسى فى غيابة جب الجنون؟انتبهت فجرا على صوت أقدام تفرك الحصى بسرعة، وهى آتية نحو المكتبة. هذه مشية الفريسى، فلابد أنه جاء ليطمئن على. أنهيت صلاتى، وفتحت الباب له، فدخل وفى يده منديل فيه فواكه، دخلت أمامه، وجلسنا متقابلين على الطاولة الكبيرة:
كيف حالك الآن يا هيبا؟
أحسن، وأظننى سأتحسن. مالك يا أخى تبدو مهموما.
وصلت الأخبار الآن. المجمع المقدس، برئاسة الإمبراطور، أعاد كيرلس إلى رتبته الأسقفية، وأقر عزل نسطور.. ونفيه!
ما الذى تقوله، وكيف حدث؟
الأساقفة تخلو عن نسطور، عدا يوحنا أسقف أنطاكية. ولم يشأ الإمبراطور وبابا روما أن يغضبا الإسكندرية، للأسباب المعروفة، ولما رأى الأسقف ربولا والذين معه، أن كفة الميزان تميل لصالح كيرلس، انقلب نسطور وأدانه. وقد صاغ المجمع قانونا جديدا للإيمان فيه إضافات على القانون الذى أقر قبل مائة عام فى نيقية.
غامت عيناى، فأغمضتها وأحطت رأسى بذراعى المستندين إلى الطاولة. فى غمرة الغيوم، انتبهت لأمر دقيق. لم يكن مجمع نيقية قبل مائة عام، وإنما كان قبل مائة وست من السنين! الذى كان قبل مائة عام بالضبط، هو اللجنة الرهيبة التى شكلها الإمبراطور قسطنطين، من القسوس المتشددين، سعيا منه لإرضاء الأساقف. كان ذلك سنة إحدى وثلاثىن وثلاثمائة للميلاد. اللجنة راحت تفتش دور الكتب وتدهم بيوت الناس، لتجمع كتب الفلاسفة والمهرطقين، والأناجيل غير الأربعة المعترف بها، والكتب الدينية المخالفة لما استقر من رأى الأساقفة، والرسائل الغنوصية. كانوا يجمعون كل ذلك فى ساحات المدن والقرى، ويحرقونه علنا، مهددين من يخفى هذه الكتابات الممنوعة، بالويل.. الويل.
رفعت رأسى وسألت الفريسى:
ماذا سيفعلون مع المبجل نسطور؟
لم يعد مبجلا، وسوف ينفونه من هنا إلى مكان قصى تابع للإسكندرية، المدن الخمس الليبية أو أخميم، لا أعرف بالضبط. وقد أدان المجمع، الأسقف تيودور المصيصى، وأنكر آراءه.
انقبض قلبى مما قاله الفريسى، وضاق بالأخبار صدرى. قمت لأفتح الشباك المطل على ساح الدير، فدارت رأسى، وترنحت حتى كدت أقع على الأرض. أدركنى الفريسى وأعاننى لأجلس ثانية، وفتح هو شباكى.. جلسنا صامتين برهة، حتى تململ وبدا فى عينيه أنه يريد أن يخبرنى بأمر آخر. لم أكن قادرا على سماع المزيد.. سالت منى رغما عنى، دمعات حارة لم أستطع إمساكها فمسحتها عن وجهى بسرعة.
فتح الفريسى منديله، وقرب الفاكهة منى وهو يقول إنها فواكه طازجة أتت من حلب، وأنه أحضرها لى لأتقوى بها.. اضطربت لذكر حلب، ونظرت فى عينيه، فوجدت فيهما طيف شفقة. دعانى للأكل فامتنعت، ونحيت المنديل بظهر يدى. سألته هل وفد أحد من حلب؟ نفى، وأخبرنى أن هذه الفاكهة الصيفية، أرسلها تاجر من الموعظين، هدية للدير رجانى ثانية أن آكل منها، فأخذت من يده حبة المشمش الكبيرة التى مدها، ووضعتها جانبا. دار برأسه فى المكتبة ثم قال إن الجو خانق، وسألنى إن كنت أريد الخروج للجلوس عند البوابة، فوافقته، استندت إلى ذراعه، وخرجنا نجر أقدامنا كالنساء الثكالى.
عند خروجنا، وجدت الشماس نائما على الأرض بقرب بابى، فدعوته للذهاب إلى بيته، وأكدت أننى لن أحتاجه الآن فى شىء. مضى ظلام ما قبل الشروق، ومضينا إلى البوابة. لم يكن قمر السماء منيرا، فقد كان أوان المحاق. جلسنا فى ظلام ما قبل الشروق، على الحجر الذى كنت جالسا عليه يوم جاءتنى خالة مرتا فجرا، لتخبرنى بأمر ذهابهما إلى حلب. الحجر الذى جلس عليه بعدى، الحارس الرومانى الذى طلبها للزواج!
هل ودعته عند رحيلها؟ وما الذى شجعه أصلا، لأن يقترح عليها الزواج؟ أتراه نال منها نيلا فى العشرين يوما، التى أخذتنى فيها الحمى؟
كنت أنظر إلى ناحية الكوخ الغارق فى الظلام، وكان الفريسى صامتا يرسم على الأرض التى تربع عليها، بعود يابس، أشكالا متقاطعة.. جاءت نسمات باردة، فأغمضت عينى وملأت صدرى منها، ثم زفرت زفرة مكلوم. أشار بالعود اليابس إلى جهة الكوخ، وقال إن المرأتين رحلتا عن هنا. لم أرد. أضاف أنه لم يكن يستبشر بما شرعنا فيه، من أمر الغناء فى الكنيسة. لم أرد. قال إنه لم يكن يرتاح لهذه المرأة التى اسمها مرتا، فخفق قلبى بشدة.. تلونت السماء بحمرة الشروق، وشعرت ببرد الهواء فطلبت منه أن نعود إلى المكتبة لأنام قليلا، فقام معى، لم أستند إلى ذراعه فى طريق عودتنا، وقبل أن يفارقنى عند الباب، سألته إن كان يخفى شيئا عنى؟ قال:
أنت الذى تحاول إخفاء ما فيك، مع أننا جميعا نعرفه!
ماذا تقصد؟
لا شىء يا هيبا. ولكنك كنت تنادى كثيرا باسم هذه المرأة، مرتا، فى نوبات الحمى.. رحيلها عن هنا.، رحمة من الرب بك وبنا، فنحن كما تعلم، لن نرضى لك ما هو غير صالح.. وقد كانت هذه المرأة، أمرا غير صالح بالمرة.
أغلقت خلفى باب المكتبة، وارتميت فوق الدكة القريبة.. لا أعرف كيف نمت؟ ولكننى انتبهت فزعا ساعة الفجر، وقمت من فورى إلى الطاولة، والتهمت كل ما كان بالمنديل من فاكهة، كنت آكل مثل مريض بجوع كلبى، وكانت دموعى تسيل.. ملت برأسى على راحتى الموضوعتين فوق الطاولة، ثم أجهشت بالبكاء والنشيج. أفقت بعد حين، وقد أزاحت كل الأفكار عن رأسى، فكرة واحدة. لقد انتهى كل شىء. انهزم نسطور، واختفت مرتا، وغاب عزازيل، وعرف أهل الدير حقيقة حالى. لقد انتهت حياتى كلها، فليس أمامى إلا الموت.
أمامك حياة طويلة يا هيبا، فلا تفكر الآن فى الموت.
عزازيل.. أين كنت؟
أفهمنى أنه كان، وسيظل دوما، حولى، وأن العالم الحقيقى إنما هو فى داخلى، وليس فى الوقائع التى تثور وتهدأ، وتنتهى لتنبدأ أو يبدأ غيرها.. استغربت من أنه لم يكن مختبئا، وحين ظهر لى لم يكن مكتئبا. كنت مازلت منكفئا برأسى على الطاولة، مغمضا عيناى، ومحدقا فى الفراغ. سألته:
هل أسقى نفسى سما لأخلص مما بى، ويتخلص الهواء إلى الهواء؟
هل جننت! الموت لا معنى له. المعانى كلها فى الحياة، أنا حى دوما، ولن أموت إلا بموتك، وموت المؤمنين بى، والمكتشفين وجودى فيهم.. وليس من حقك أن تميتنى، بموتك، قبل الأوان؟ كيف أحيا، وقد جرى كل ما تعرفه؟
تحيا يا هيبا لتكتب، فتظل حيا حتى حين تموت فى الموعد، وأظل حيا فى كتاباتك.. اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يكوت أبدا.
عزازيل يعشق الحياة فهى مرتعه، ولذلك هو يكره الداعين إلى نبذ المباهج والأفراح، ولا يطيق الزهاد والمنقطعين عن الحياة. يسميهم الحمقى! قمت من جلستى، فأغلقت الشباك الذى كان مفتوحا على ساحة الدير، وكان نور الصباح قد بدأ إشراقه. أردت مواصلة الكلام مع عزازيل، فأسندت جبهتى إلى الجدار، وسألته:
أأنت الذى قابلتنى عند حدود بلدة سرمدة، وعند نزولى من جبل قسقام بمصر؟
ما هذا الذى تقول؟ أنا لا وجود لى، مستقلا عنك. أنا يا هيبا أنت، ولا أكون إلا فيك.
ألا تتجسد يا عزازيل فى أشخاص بعينهم؟
 التجسد خرافة.
سمعت صوت أقدام، ففتحت الشباك ثانية. كان جماعة من رهبان الدير آتين لزيارتى، وكان معهم خادمان يحملان طاولة كبيرة، عليها طعام الفطور.. أخبرونى أن رئيس الدير سيلحق بهم، وسوف نفطر جميعا هنا. كان ذلك عطفا كبيرا منهم.
تكلم رئيس الدير بعدما تلا بعض المزامير، فقال لنا وكأنه يحدثنى أنا، تحديدا: يا أبناء الرب، دعونا فى هذا الصباح المبارك ندعو الله ونبتهل إليه شاكرين نعمته، ومستجلبين رحمته.. واعلموا أن الله حاضر دوما فى قلوبكم، وإن كان عرشه فى السماء. وقد رأيت أن الكثيرين منكم، قد فجعوا بما جرى فى إفسوس، واهتز إيمانهم، واضطربت قلوبهم. والذى جرى محزن لنا، فليشملنا الرب جميعا بعفوه. ولكن طريقنا نحن الرهبان، لا شأن له بمشكلات اللاهوت والمجادلات الدائرة بين رءوس الكنائس. هؤلاء يثورون حينا، ويهدأون أحيانا، فليكن بينهم ما يكون، وليكن بيننا الطريق الذى بعون الرب اخترناه، وليجمع بيننا أمر وحيد هو محبة الرب وبشارة يسوع وتوقير العذراء المقدسة، سواء هى أم الإله، أم أم المسيح. فنحن وقد ودعنا صخب الدنيا، نعرف العذراء بقلوبنا، لا بأقوال اللاهوتيين ولا بمذاهبهم. سوف نلتزم هنا بقانون الإيمان الذى صاغوه فى إفسوس، ونجمع الناس إليه فى حظيرة الرب، حتى لا نترك العوام للشيطان، فيعبث بهم إذا تفرقوا. ولنا من بعد ذلك، طريق إلى الله، لا يحده قانون مكتوب، ولا كلمات مخصوصة. للرهبنة سر يعلو فوق الألفاظ، ويسمو عن اللغات، ويدق عن التعبيرات. ولسوف تظل الرهبنة والشركة والديرية، منارة تهدى المؤمنين، وسبيلا لمن وهبوا أنفسهم، مخلصين فى محبتهم للرب، وتعمقوا فى إيمانهم بيسوع المسيح، وفى تقديسهم للسيدة العذراء.
طابت نفسى من كلام رئيس الدير، فأكلت مع الرهبان لقيمات. غير أننى كنت أشعر ساعتها بعزازيل، يجلس فى الركن القصى من المكتبة، ويبتسم بمكر وسخرية.. ودعنى الرهبان، وذكرنى رئيس الدير بضرورة الخلود إلى الراحة. وسألنى إن كنت أريد شيئا من مطبخ الدير، فشكرته.
أوان العصر عاودنى الحنين، وتكدرت روحى. كنت وحدى فى المكتبة، فدعوت عزازيل لأنشغل بآرائه العجيبة عما أعانيه، سألته عن رأيه فيما قاله رئيس الدير فى الصباح، فأجاب وهو يبتسم ويمعن فى إغاظتى: ماذا يمكن لرئيس الدير أن يقول غير ما قاله، وإلا صار عليه أن يجد مكانا غير هذا الدير، ليرأسه! رأيت أنه يتجنى على الأب الجليل، فزعقت فيه بأن يلتزم الأدب.. فاختفى.
فى أول المساء جلست إلى الطاولة، ونويت أن أكتب ترنيمة جديدة. كان الشعر يلح على بشدة، فأديت صلاة الليل وحدى، وأحضرت الرقوق. كتبت هذه القصيدة:
يا إلهى، أشرق بخيط من نورك الأزلى،
ينير قلبى المظلم، ويبدد وحشتى.
يا أبانا الذى فى السماء، أفض على الأرض ببشارات العزاء، فكلنا محزونون، وأحزاننا موجعة.
يا يسوع المخلص، أنت مبدؤنا ومنتهانا، وأنت بقاؤنا بعد فناء دنيانا.
كتبت الأبيات بعد محاولات عسرة، كأننى أقتلع الكلمات من جوف قلبى، فتدمينى. كان بدنى لم يزل هزيلا، وكنت على وشك الذهاب فى سكرة نعاس، تأخذنى إلى الأفق البعيد، غير أننى فوجئت بصوت عزازيل يتصعد من أقصى مواطن فراغى، وأحلكها، فيسيل قلبى بين الضلوع، ويشعرنى بأن السماء انطبقت على الأرض وأنام محشور بينهما. كان يقول: متى يا هيبا ستكتب الكتابة الحقة، وتكف عن المراوغة وتتغنى بالألم الذى فيك؟ لا تكن مثل ميت ينطق عن ميتين، ليُرضى الميتين! قل الحق الذى بقلبك، مثلا: يا مرتا، أشرقى بلحظة من وصالك، لتنيرى قلبى المظلم، وتبددى وحشتى..
اسكت يا ملعون، لن أتغنى إلا بالمسيح الحى.. فالشعر در منظوم، وقد قال المسيح يسوع: لا تلق بالدر للخنازير.
هل صارت مرتا عندك كالخنازير. أفق يا هيبا وانتبه، فإن شوقك إليها يعتصرك ويهصر قلبك.. اذهب إليها، خذها وارتحل عن هذه البلاد. اسعد بها ودعها تمرح، ثم صب علىّ اللعنات لأننى أغويتك؛ فنكون نحن الثلاثة قد تحققنا، وحققنا ذواتنا.
قلت فى نفسى، لن أصغى لتشكيكات عزازيل، فهو بطبعه متشكك ومثير للقلق. سوف أغسل قلبى بماء اليقين، وأستعصم بإيمانى من غواياته وهرطقته وميله للمتع الزائلة. مهما كان تعلقى بمرتا، فإنه مؤقت، مثل كل ما فى الدنيا. ولن أبيع الباقى من أجل الفانى، والغالى من أجل الرخيص. سوف أعيش حياتى فى المسيح الحى.
أهو حى، كيف وقد قتله الرومان؟
مات أياما، ثم قام قيامته المجيدة من الموت!
 وكيف مات أصلا.. كيف لك أن تصدق يا هيبا، أن الحاكم الرومانى بيلاطس وهو الإنسان، قادر على قتل المسيح الذى هو الإله.
كان ذلك هو السبيل الوحيد لخلاص الإنسان.
بل كان السبيل الوحيد لتخليص المسيحية من اليهودية!
لم أشأ أن أسمع من عزازيل المزيد لكنه ظل يهمس فى أذنى، أثناء نومى، برأى عجيب. كان يقول أشياء كثيرة، منها أن اليهود أهانوا فكرة الألوهية التى اجتهدت الإنسانية طويلا كى تصوغها. حضارات الإنسان القديمة علت بالإله، واليهود جعلوه فى توراتهم منهمكا مع البشر، فكان لابد من إعادته إلى السماء ثانية.. وهكذا جاءت المسيحية لتؤكد وجود الله مع الإنسان فى الأرض، فى شخص المسيح، ثم ترفعه مستعينة بالأساطير المصرية القديمة، إلى موضعه السماوى الأول. بعدما ضحى (الإله) بنفسه، على ما يزعمون، من أجل خلاص البشر من خطية أبيهم آدم!.. فهل انمحت الخطايا بعد المسيح، وهل صعب على الله أن يعفو عن البشر بأمر منه. من غير معاناة موهومة، وصلب مهين، وموت غير مجيد، وقيامة مجيدة.
***
غاب عزازيل بداخلى وسكت، فغمرتنى راحة مفاجئة، شعرت بعدها بالفراغ يلفنى.. بعد حين توسدت فراغى، ونمت فى نومى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.