في تاريخ مصر الحديث عاصر المصريون تقلبات في مزاج العرب نحوهم، من الإشادة والتقدير إلي القدح والذم.. المصريون أنفسهم في دهشة وحيرة في السنوات الأخيرة من مسلك بعض «أخوتهم» الذين يمكن أن يقال إنهم يحاولون «جر شكلك بدون داع». هذه العملية بالمناسبة ليست مقصورة علي بعض الحكام والمسئولين ولكنها تمتد إلي العديد من الصحفيين والممثلين والكتاب الذين يقولون وهم يمصمصون شفاههم «إن مصر راحت عليها ولم يعد لها أي دور يا حرام الشوم أنظروا إلي الفقر بين غالبية سكانها» إلي مثل هذه العبارات. كل ذلك بالطبع يحز في نفوس المصريين الذين يشعرون بمرارة وحزن ودهشة وتعجب ويسألون؟ لماذا كل ذلك؟ هل حاولت مصر التدخل في شئونك أو القيام بعمليات إرهابية ضدك؟ أو تهديدك كما يفعل الآخرون من «إخوانك» الذين تبدون لهم كل الرهبة والاحترام. هل السبب يرجع إلي أن مصر لا تتبع مثل هذه الأساليب؟ ولذلك لا خوف من رد فعل المصريين. بالمناسبة هذه الاتجاهات ليست حديثة كما يعتقد الكثيرون بل ترجع إلي عقود طويلة منذ عهد الرئيس عبدالناصر الذي اتهم مرات عديدة بالخيانة وبيع المصالح العربية والقومية، لقد سمعت ذلك بنفسي في اجتماعات رسمية ومن إذاعات حكومية ومن صحف تسمي نفسها «عربية». المصريون عادة أصبحوا مع ذلك يتقبلون الأمر بفلسفة نابعة من حضارة قديمة وطويلة والقول بأن هؤلاء مثل الأولاد الذين ضلوا طريقهم وعضوا يد أمهم الرءوم. حتي في عيد الأم لا يتذكرونها أو علي الأقل يزورنها بل أصبحوا يرتمون في أحضان غيرها. مصر لا تعتبر نفسها فوق أي نقد فنحن ننقد أنفسنا كل يوم، ولكن ما يحز في نفوسنا هو «الضرب تحت الحزام» بكل حقد وضغينة ويجعلنا نتساءل: هل أسلوب التعامل الحالي خاطئ؟ هل يجب أن ننحو مثل الآخرين ونستخدم لغة التهديد والوعيد بل وأكثر من ذلك. لا أعتقد أن طبيعتنا تسمح لنا بذلك. هل الكل مثل ذلك؟ بالطبع لا فإنني أقابل كل يوم من إخواننا العرب وغير العرب الذين يعلنون عن مودتهم الشديدة وحبهم لمصر وتقديرهم لما قدمته، ولكن للأسف فإن أصوات هؤلاء بالرغم أنهم ليسوا أقلية تضيع وسط صيحات الشتامين والمغرضين المخصص لهم إذاعات وصحف وقنوات تليفزيونية تنفق عليها عشرات الملايين من الدولارات من قبل هؤلاء الذين في قلوبهم غل. سبق لي أن ذكرت عدة مرات القصة التي شاهدتها مباشرة عندما كنت أعمل في وفد مصر لدي الأممالمتحدة في نيويورك في السبعينيات من القرن الماضي وبعد حرب أكتوبر المجيدة. قال لنا السفير السوفييتي في ذلك الوقت إنه يحرص كل يوم علي قراءة الصحف الأمريكية ومختلف وسائل الإعلام واليوم الذي لا يجد فيه مقالات تنتقد بلاده فإنه يشعر بالقلق الشديد لأن الدول القوية المحترمة هي وحدها التي تشتم وتنتقد أما الدول العادية التي تحاول أن تمشي «جنب الحيط» فلا يذكرها أحد. أيضًا بعض هؤلاء الشتامين يريد أن يشتهر بأن هو الذي يشتم الدولة الكبري مصر ويتهكم علي المصريين. حادثة أخري حضرتها بنفسي في نيويورك أيضا فقد كان صدام حسين حاكم العراق يبعث خلال السبعينيات بزبانيته وعملائه حول العالم لاغتيال ممثلين لتلك «الدولة العربية» التي لم تكن تعجبه سياستها ويهددها علانية، وكنت أندهش أن ممثلي هذه «الدولة» كانوا يتزلفون لسفراء صدام حسين ويشيدون بإنجازاته وأنه رفع رأس العرب إلخ.. بالرغم من كل ما فعله فيهم. عندما كنت أسألهم لماذا يفعلون ذلك؟ كان جوابهم أنهم خائفون ومرتعدون من صدام ويحاولون إرضاءه بشتي الطرق. لماذا كل هذه المقدمة؟ لقد أطلعت علي مقال صحفي سعودي مس شغاف قلبي وجعلني أستعيد بعض ثقتي أنه بالرغم من كل ذلك، يوجد من يقدر ويحب مصر في النهاية. قد يظن البعض أننا نريد أن نسمع مديحا في أنفسنا -وهذا ليس عيبا بالمناسبة- ليس بمثابة قصائد المدح التي كانت تقال قديما ويمنح صاحبها كيسا من الذهب (أو الدولارات أو اليورو الآن)، ولكنك تحس أن صاحبها يقولها من القلب ودون غرض وذلك لإيمانه بما تقوم به دولة تسمي مصر وشعبها. هذا ما كتبه الصحفي السعودي «جميل فارسي». عن مصر وأود أن أشارككم معي فيما ذكره. ليس بغريب أنه جاء من جانب أحد الأخوة في السعودية فهم أقرب إلينا من كل الشعوب الأخري وكان زملائي في مدرسة الأورومان الابتدائية في الأربعينيات من القرن الماضي من أبناء الأسرة المالكة والشخصيات الكبيرة وكانوا نعم الأصدقاء المخلصين وما زلنا علي اتصال حتي الآن. ماذا يقول، اقرأوا معي ولن أعلق علي ما قاله سوي بالقول «في النهاية لا يصح إلا الصحيح»: «يخطئ من يقيم الأفراد قياسا علي تصرفهم في لحظة من الزمن أو فعل واحد من الأفعال ويسري ذلك علي الأمم، فيخطئ من يقيم الدول علي فترة، وهذا للأسف سوء حظ مصر مع مجموعة من الشباب العرب الذين لم يعيشوا فترة ريادة مصر». تلك الفترة كانت فيها مصر مثل الرجل الكبير تنفق بسخاء وبلا امتنان وتقدم التضحيات المتوالية دون انتظار للشكر. هل تعلم يا بني أن جامعة القاهرة وحدها قد علمت حوالي المليون طالب عربي ومعظمهم بدون أي رسوم دراسية؟ بل وكانت تصرف لهم مكافآت التفوق مثلهم مثل الطلاب المصريين. وهل تعلم أن مصر كانت تبعث بمدرسيها لتدريس اللغة العربية للدول العربية المستعمرة حتي لا تضمحل لغة القرآن لديهم، وذلك كذلك علي حسابها؟ هل تعلم أن أول طريق مسفلت إلي مكةالمكرمة شرفها الله كان هدية من مصر؟ علي مر العصور والعرب صفر علي الشمال بدون مصر، حتي إن مرضت مصر واغتني العرب فحركات التحرر العربي كانت مصر هي صوتها وهي مستودعها وخزنتها. وكما قادت حركات التحرير فإنها قدمت حركات التنوير. كم قدمت مصر للعالم العربي في كل مجال، في الأدب والشعر والقصة وفي الصحافة والطباعة وفي الإعلام والمسرح وفي كل فن من الفنون ناهيك عن الدراسات الحقوقية ونتاج فقهاء القانون الدستوري. وكما تألقت في الريالة القومية تألقت في الريادة الإسلامية، فالدراسات الإسلامية ودراسات القرآن وعلم القراءات كان لها شرف الريادة. كان للأزهر دور عظيم في حماية الإسلام في حزام الصحراء الأفريقي. وكان لها فضل تقديم الحركات التربوية الإصلاحية أما علي مستوي الحركة القومية العربية فقد كانت مصر أداتها ووقودها. وأن انكسر المشروع القومي في 67 فمن الظلم أن تحمل مصر وحدها وزر ذلك، بل شفع لها أنها كانت تحمل الإرادة الصلبة للخروج من ذل الهزيمة. إن صغر سنك يا بني قد حماك من أن تذوق طعم المرارة الذي حملته لنا هزيمة 67، ولكن دعني أؤكد لك أنها كانت أقسي من أقسي ما يمكن أن تتصور، ولكن هل تعلم عن الإرادة الحديدية التي كانت عند مصر يومها؟ أعادت بناء جيشها فحولته من رماد إلي مارد. وفي ست سنوات وبضعة أشهر فقط نقلت ذلك الجيش المنكسر إلي أسود تصيح الله أكبر وتقتحم أكبر دفاعات عرفها التاريخ. مليون جندي لم يثن عزيمتهم تفوق سلاح العدو ومدده ومن خلفه. بالله عليك كم دولة في العالم مرت عليها ست سنوات لم تزدها إلا اتكالا؟ وست أخري لم تزدها إلا خبالا. ثم أنظر، وبعد انتهاء الحرب عندما فتحت نفقا تحت قناة السويس التي شهدت كل تلك المعارك الطاحنة أطلقت علي النفق اسم الشهيد أحمد حمدي. اسم بسيط ولكنه كبر باستشهاد صاحبه في أوائل المعركة. أنظر كم هي كبيرة أن تطلق الاسم الصغير. هل تعلم أنه ليس منذ القرن الماضي فحسب، بل منذ القرن ما قبل الماضي كان لمصر دستور مكتوب. شعبها شديد التحمل والصبر أمام المكاره والشدائد الفردية، لكنه كم انتفض ضد الاستعمار والاستغلال والأذي العام». مصر تمرض ولكنها لا تموت، إن اعتلت اعتل العالم العربي وإن صحت صحونا، ولا أدل علي ذلك من مأساة العراق والكويت، فقد تكررت مرتين في العصر الحديث، في إحداهما وئدت المأساة في مهدها بتهديد حازم من مصر لمن كان يفكر في الاعتداء علي الكويت، ذلك عندما كانت مصر في أوج صحتها. أما في المرة الأخري فهل تعلم كم تكلف العالم العربي برعونة صدام حسين في استيلائه علي الكويت؟. هل تعلم أن مقادير العالم العربي رهنت لعقود بسبب رعونته وعدم قدرة العالم العربي علي أن يحل المشكلة بنفسه. إن لمصر قدرة غريبة علي بعث روح الحياة والإرادة في نفوس من يقدم إليها. أنظر إلي البطل صلاح الدين، بمصر حقق نصره العظيم. أنظر إلي شجرة الدر مملوكة أرمنية تشبعت بروح الإسلام فأبت إلا أن تكون راية الإسلام مرفوعة فقادت الجيوش لصد الحملة الصليبية. لله درك يا مصر الإسلام، لله درك يا مصر العروبة إن ما تشاهدونه من حال العالم العربي اليوم هو ما لم نتمنه لكم. وإن كان هو قدرنا، فإنه أقل من مقدارنا وأقل من مقدراتنا. أيها الشباب أعيدوا تقييم مصر. ثم أعيدوا بث الإرادة في أنفسكم فالحياة أعظم من أن تنقضي بلا إرادة. أعيدوا لمصر قوتها تنقذوا مستقبلكم. أما أخ فارسي الذي لم أقابلك من قبل، أشكرك