الحكمة الذائعة في دنيا السوق هي أن الزبون دائما علي حق, أما في عالم الأفكار والكتابة فإن القارئ هو دائما الحكم والفيصل في قيمة ما هو مطروح عليه. ومنذ وقت بعيد, وربما منذ اختراع الصحافة المطبوعة ووصولها إلينا في مصر, فإن الكاتب كان دائما في حيرة حول رد الفعل الذي تلقاه مقالاته, وما يقدمه من آراء وتحليلات; ومع غيبة استطلاعات كافية للرأي العام, والتشكيك المستمر فيما هو متاح منها, فإن كتابا استسلموا لمقولة لا حياة لمن تنادي, علي أساس أن ما يقولون به يملك حكمة أصيلة لا تجد لها غرسا ولا ثمرة. ولكن التكنولوجيا باتت علي وشك أن تحل هذه المعضلة عندما بات ممكنا إجراء التفاعل بين القراء والكتاب ساعة طرح ما يأتون به علي شبكة المعلومات الدولية حيث يقول القراء كلمتهم التي تتراوح ما بين تعليقات بسيطة حول ما يقال, ومقالات مطولة تطرح الحجج والأرقام. منذ بدأ موقع الأهرام الجديد في العملwww.ahram.org.eg فإنه يتلقي يوميا ما يتعدي الألفين من التعليقات, بما يمثل نوعا من العينة التي يمكن تحليل ما قالت به لمعرفة ما يدور في أذهان وقلوب القراء من آراء وانطباعات, حتي لو كانت العينة غير ممثلة بالمعني العلمي لأنها تشمل فقط هؤلاء الذين يملكون حاسبا آليا, ويعرفون كيف يستخدمونه, وهؤلاء يمثلون شريحة عمرية واقتصادية معينة علي الأغلب تمثل قلب الطبقة الوسطي بعلمها وثروتها. ولكن هذه الشريحة لها أهميتها, وهي في العادة تقع في قلب التطورات التي تجري في كل بلدان العالم, وهي بهذا المعني تمثل كتلة حرجة لا بد من الاقتراب منها والاستماع لها, واعتبارها علي حق, لأنها هي في الواقع قلب التغيير الذي يجري في مصر. دون الدخول في كثير من التفاصيل أو التحليلات الكيفية أو الكمية للآراء الواردة من قراء هذه الجماعة, فإن لديها اتجاها قويا لعدم تصديق كل الأخبار الطيبة أو السارة عن مصر, والحقيقة أن الاتجاه نفسه يشيع وجوده بين المجتمع الصحفي والإعلامي والثقافي المصري. فحقائق مثل ارتفاع العمر المتوقع للإنسان المصري بما مقداره15 سنة لا يعني الكثير لدي هؤلاء, ومهما تكن الأرقام تنفي بوضوح أن الفقير لا يزداد فقرا في مصر, ولا الغني يزداد غني, وأن الطبقة الوسطي تستحوذ علي62% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر, فإن ذلك إما أنه مشكوك فيه بقوة, أو أن المستمع, أو القارئ, سوف يطلق فورا حزمة هائلة من الحقائق السلبية التي لا يختلف عليها أحد من فقر ومرض ويعتبر أن ما عداها لا يقدم ولا يؤخر في التقييم العام للحالة المصرية. أما إذا كانت الأرقام فاقعة للغاية فإن المعلق سوف يجري فورا إلي التقارير الدولية مستشهدا بمكانة مصر المتدنية بين الأمم والشعوب; وحتي لو لم تكن المكانة بالسوء الذي يتصوره بل وجدها تتحسن عبر الزمن, فإن التعليق يكون فورا أن ترتيب مصر لا يليق بها. عندما وجدت في ذكر التقارير الدولية, وما ورد فيها فرصة لكي يتم طرح منهج للإصلاح, حيث إن من سبقنا علي سلم التقدم في العالم التزم في الغالب بمناهج متشابهة مثل الاستثمار في التعليم, وإطلاق المبادرة الخاصة والاعتماد علي اقتصاد السوق والمشاركة السياسية الحقة التي تصل بدرجات مختلفة إلي الديمقراطية كما عرفتها الدول الغربية, وجري التساؤل عما إذا كان واجبا علينا إتباع مناهج هذه الدول في الإصلاح والتغيير تراوحت الإجابة بين الصمت والتجاهل والاستنكار علي أساس أن علينا أن نخلق طريقنا الخاص. في استطلاع للرأي, أجراه مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام في العام الماضي حول مدركات المواطنين المصريين حول الشفافية والفساد طرح السؤال حول النظام الاقتصادي الأفضل لمصر, وعما إذا كان يقوم بشكل رئيسي علي الدولة والقطاع العام أو علي القطاع الخاص, بينما تقوم الدولة بدور مشدد في التنظيم والرقابة وتطبيق القانون. الاستجابة كانت مدهشة, وليس لها علاقة بالدول التي تسبقنا في التقارير الدولية ويحب القراء الإشارة إليها مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتركيا, فقد وجد62% من مفردات العينة أن النظام الأفضل هو دولة القطاع العام, أي الدولة التي لا يكف المواطنون عن الشكوي منها, بينما انحاز30% للقطاع الخاص, أما المزيج الذي يأخذ بحسنيي منافسة السوق وميزة رقابة الدولة فلم يجد أنصارا إلا9% فقط. لاحظ هنا أن المطالبة باقتصاد الدولة تأتي بينما لا يكف أحد عن الشكوي من الدولة وسيطرتها وهيمنتها وفشلها في التعليم والصحة وخلق فرص العمل ومقاومة الأمراض, وبالطبع إقامة الديمقراطية التي لا يعرف أحد كيف ستقام, بينما تكون في الوقت نفسه هي المتحكمة في أرزاق الناس. ومع ذلك فإن القارئ دائما علي حق وليس مطلوبا منه أن يقدم نظريات متكاملة أو متسقة تمام الاتساق, وعلي الأرجح أن هناك بعدا مهما يجري دائما استبعاده من التحليل وهو ما يمكن تسميته المزاج العام وهو حقيقة أدركها أهل السوق الاقتصادية منذ وقت طويل عندما أدركوا أن الزبون علي حق ليس لأنه حسب الأمور بميزان دقيق, أو أنه طبق المنطق في كل خطوة, وإنما لأنه, علي الأرجح, وضع مكان كل ذلك أمورا مثل التجربة أو ما تم اختزاله من حكمة الآخرين, فضلا عن نوازع وعواطف وشطحات تعطيه توجها من نوع أو آخر. المسألة ببساطة هي أن القارئ مثل أي شخص أصيب بداء في إحدي قدميه يجعله يشعر بآلام مبرحة; وساعتها فإنه لا يغنيه شيئا سلامة يديه أو قدرة عقله علي الإبداع, أو أن قلبه لا يزال قويا, فما سوف يشغله في كل لحظة لن يكون سوي الألم الذي يشعر به ويسعي إلي إزالته. بمراجعة الكثير من استطلاعات الرأي العام المتاحة, وقراءة تعليقات القراء المصريين في الصحافة المصرية, بل تمعن ما يكتبه كثرة من الزملاء في صحف مصرية مختلفة, فإنه فضلا عن وجود مقاومة شرسة لكل ما هو متاح حقا من أرقام عن الحالة المصرية والسخرية ممن يطرحها, فإن هناك بالفعل عددا من القضايا المؤلمة التي تبدو حاكمة في التوصل إلي نتائج واستنتاجات متشائمة. هذه القضايا كثيرة وهي عن حق بالغة الأهمية, إلا أننا سنقتصر هنا علي ذكر ثلاث منها تؤثر علي المزاج العام, فضلا عن أنها تمثل في مجملها واحدة من المقدمات الضرورية لكل تقدير للحالة المصرية, حيث لا يمكن إدارة حوار جاد حولها دون حسم مصداقية النظام السياسي. القضية الأولي هي مصداقية ونزاهة الانتخابات, ويلاحظ بداية أن المصريين يتحدثون كثيرا عن ضرورة وضع دستور ديمقراطي جديد, ولكن إذا بدأت في بحث ما يوجد في الدساتير' الديمقراطية' حقا لوجدت خلافات عميقة في الرأي حول ما يجب اتباعه وذلك الذي ينبغي غض النظر عنه لأنه يخالف الأصول والشرائع والتقاليد المرعية!. ولكن ما هو شائع وذائع هو الشكوك حول نزاهة الانتخابات المصرية; وهنا فإن القضية ليست النظام السياسي وإنما قدرة النظام القائم علي الوفاء بما يعد به عند التطبيق الفعلي. للقضية هنا شقان: أولهما يذهب إلي الشك في نزاهة الانتخابات, وهو ما جري التعامل معه من خلال إتاحة الرقابة علي الانتخابات من خلال المجتمع المدني, والصحافة المصرية والعربية وحتي العالمية. ولكن كل ذلك بصراحة لم يعد كافيا نتيجة تاريخ طويل من عدم الثقة لا يمكن التعامل معه دون اللجوء إلي مراقبين من الخارج; تماما كما هي الحال مع مباريات الأهلي والزمالك التي لم يعد ممكنا الاطمئنان إلي نتائجها دون وجود حكم أجنبي. أعلم أن مثل هذه الحال فيها قدر غير قليل من المرارة في بلد حاول التخلص طوال تاريخه من رقابة الأجنبي, وهناك قوي سياسية كثيرة داخل الحزب الوطني الديمقراطي وخارجه ترفض الموضوع استنادا إلي حجج تخص السيادة والاعتبارات الوطنية, وكلها لها جدارتها السياسية والفكرية, ولكن الاختيارات في عالم السياسة في أغلب الأحوال يكون أحلاها مر وعلقم. ودون الدخول في كثير من التفاصيل التي لا يسمح بها المقام والمساحة فإن الحزب الوطني الديمقراطي لن يكون قادرا علي تنفيذ برنامجه الإصلاحي أيا كان الاتفاق أو الاختلاف معه دون حل معضلة المصداقية هذه. الشق الثاني هو ضعف المشاركة في العملية السياسية, حيث شارك23% فقط من الناخبين المسجلين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة, و26.2% في الانتخابات البرلمانية عام2005, وكان ذلك أكثر قليلا مما كانت عليه الحال في عام2000 عندما شارك24%; ولو أن النسب حسبت ممن هم في سن التصويت لانخفضت إلي مستويات سحيقة تتراوح حول18% ممن في سن التصويت. مثل ذلك يرجع جزئيا إلي الشك في نزاهة الانتخابات, ولكن الأغلب أيضا أنه يعود إلي آلية التصويت ذاتها حيث لا تسمح إلا بهذا العدد من المصوتين. وببساطة فإن ما لدينا من أماكن للتصويت لا تكفي إلا لهذا العدد علي أساس أن الناخب يحتاج زمنا بعينه حتي تتم عملية مراجعة الاسم وقيام الناخب بواجبه; ولذا فإن الناخب سوف يبتعد عن العملية كلها إذا كانت سوف تكلفه يومه وعمله وتضعه في حالة مرهقة من الزحام. وما نحتاج إليه هو قدح زناد الفكر حتي يسفر عن وسائل لتوسيع دائرة المنافسة والتصويت بحيث يشارك القدر الأكبر من المواطنين في العملية الانتخابية, وساعتها ربما نحصل علي نتائج مختلفة عما نتصوره قائما في ظل نسبة صغيرة من المواطنين يسهل فيها الحشد والتعبئة التي ينفر منها العاقل والمعتدل. القضية الثانية التي تعكر المزاج العام تبدو ثانوية إلي جانب قضايا البطالة والفقر وارتفاع الأسعار, ولكنها تقف وراء تلال من الإحباطات المصرية حيث لا يتصور أحد أنه يمكن الحديث عن البحث العلمي أو تحديث الصناعة أو مضاعفة الصادرات أو مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي أو حتي إقامة الديمقراطية وسط كل هذه الجبال من القمامة. ومنذ أيام عقد الرئيس حسني مبارك اجتماعا خاصا للموضوع, ولكن السؤال هو: لماذا ظلت الحالة علي سوئها طوال العقود الماضية, ومن يضمن استمرار الاهتمام العام بها حتي يتم حلها حلا جذريا؟. والأمر هنا هو أن القضية ليست أن القاهرة فقط, أو المدن الكبري وحدها, هي المصابة بداء القذارة, وإنما بات الأمر يخص مصر كلها, إلي الدرجة التي جري فيها نوع من التعايش بين البشر والحقيقة البشعة. العجيب في الأمر أن كل الوزارات المصرية ناقشت الموضوع يوما أو بعض يوم, وكانت هناك خطط نحو تدوير القمامة وإعادة استخدامها لأغراض شتي, بل كان هناك من تحدث عن القيمة العالية للمخلفات الصلبة; ولكن المسألة بقيت علي حالها تنشر الأمراض, وتبعد السائحين, والأهم من ذلك كله تجعل المزاج العام في حالة بالغة السوء. القضية الثالثة التي تحرف المزاج القومي هي الأمية, فبعد أكثر من قرنين من النهضة المصرية, وقرن من زوال الأمية في اليابان في عام1906, لاتزال الأمية موجودة في مصر; ومنذ أيام نشرت الأهرام أن عدد الأميين قد زاد في المحروسة حتي وصل إلي17 مليون نسمة في سن التعليم. وهذه كارثة بكل المقاييس لأنها لا تعني فشل وزارة واحدة وإنما فشل عدد من الوزارات ومجالس الوزراء أيضا, وكلهم لم يفطنوا ليس فقط إلي عدد من لا يعرفون القراءة والكتابة, وإنما لأنهم لم يدركوا أثر ذلك علي المزاج العام الذي لا يعرف كيف يمكن إدراك التقدم بينما هذه النسبة الكبيرة من السكان لا تزال علي حالها من الأمية. وفي ظل هذه النسبة لا يمكن الحديث عن مجتمع صناعي ولا عن دولة مدنية حديثة, ولا عن اللحاق بالعصر, ولا مناوءة الجهل بالكومبيوتر, ولا دخول الألفية الثالثة بعد الميلاد التي مر منها عشر سنوات بالفعل. بالطبع يمكن ذكر عدد آخر من القضايا الأخري التي تقض مضاجع الرأي العام, ومن المفهوم أن هناك قضايا هيكلية كثيرة تخص النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المصرية تحاول الحكومة التعامل معها بشكل أو آخر; ولكن القضايا الثلاث المذكورة هي مصدر الألم المباشر للمواطنين والتي بدون التعامل معها فورا, فلن يكون أحد علي استعداد لسماع شيء آخر. وبقدر من التفكير فإن هذه القضايا كلها جوهرية, فمصداقية الانتخابات هي جزء لا يتجزأ من شرعية النظام السياسي, وزوال الأمية يقف وراء كل حديث عن التعليم والبحث العلمي وذيوع العقلانية في التفكير والمعرفة بأحوال العالم, ورفع القمامة من الشوارع يزيل تهديدا مباشرا لصحة الشعب والمجتمع, وربما يدفع إلي المجتمع بجرعة من التفاؤل يفتقدها في حياته اليومية. وبصراحة هل كانت هذه القضايا تحتاج إلي أي قدر من التذكير والإلحاح أم أنها واضحة كل الوضوح ؟! [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد