رئيس وحدة الأبنية بمجلس الدولة: التحول الرقمي يساعد في تقريب العدالة الإدارية    «القصير»: تطوير قانون التعاونيات أولوية لوزارة الزراعة خلال المرحلة القادمة    جيش الاحتلال يزعم: قواتنا اغتالت أكثر من 100 مخرب في رفح    التشكيل - مانشستر سيتي بالقوة الضاربة وسون يقود توتنام في مواجهة تحديد اتجاه الدوري    الداخلية تكشف كواليس فيديو "زفة" مطروح    يسرا وريا أبي راشد تخطفان الأنظار في مهرجان كان السينمائي الدولي    قصواء الخلالى: مصر داعية للسلام وإسرائيل جار سوء و"ماكينة كدب بتطلع قماش"    فيديو.. عالم أزهري: الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.. والتراث ليس معصوما من الخطأ    اعرف قبل الحج.. هل الطواف حول الكعبة من الدور الثاني أو الثالث ينقص الثواب؟    81 مليار جنيه لمشروعات الوادي الجديد، نائب المحافظ تكشف التفاصيل خلال حفل المعهد الصحي    تحكم في وزنك من خلال تعديلات بسيطة على وجباتك    الشيبي: بيراميدز يستحق التتويج بالدوري.. ولا أحب خسارة أي تحدِ    وزير الدفاع البريطاني: سنزود فرقاطاتنا بالبحر الأحمر بقدرات هجوم بري    جامعة الأقصر تفتتح مركزًا للطلاب ذوي الإعاقة    إنفوجراف| 5 معلومات عن السيارات الكهربائية في مصر    تعرف على القطع الأثرية المميزة لشهر مايو بالمتاحف.. صور    «السرب» يتصدر قائمة الإيرادات و«على الماشى» يتذيل الترتيب    وزير الأوقاف: نسعى لاستعادة خطابنا الديني ممن يحاول اختطافه    غدًا.. الحكم على المتهم بدهس «طبيبة التجمع»    جامعة الزقازيق تتقدم 46 مركزا بالتصنيف العالمي CWUR لعام 2024    أسهل طريقة لعمل الكرواسون بالجبنة في المنزل.. وجبة خفيفة للفطار والعشاء    قبل البيرة ولا بعدها؟..تعليق علاء مبارك على انسحاب يوسف زيدان من تكوين    أحمد موسى يفجر مفاج0ة عن ميناء السخنة    الأربعاء.. انطلاق فعاليات الدورة الثانية لمعرض زايد لكتب الأطفال    بعد تصدرها التريند.. ما هي آخر أعمال نسرين طافش؟    مفاجأة كبرى.. ديبالا في مدريد هذا الصيف    الإحباط والغضب يسيطران على العسكريين الإسرائيليين بسبب حرب غزة    تنظيم 10 ندوات لمناقشة المشكلات المجتمعية المرتبطة بالقضية السكانية في شمال سيناء    الاتحاد الأوروبي يوسع عقوباته على إيران بسبب روسيا    بعد تصدرها التريند.. تعرف على آخر أعمال فريدة سيف النصر    محافظ أسوان يكلف نائبته بالمتابعة الميدانية لمعدلات تنفيذ الصروح التعليمية    جامعة كفرالشيخ تتقدم 132 مركزا عالميا في التصنيف الأكاديمي CWUR    شعبة الأدوية: الشركات تتبع قوعد لاكتشاف غش الدواء وملزمة بسحبها حال الاكتشاف    القاهرة الإخبارية: فصائل المقاومة نصبت أكمنة لمحاور التوغل الإسرائيلي برفح    المدير الفني ل «نيوكاسل يونايتد»: نعلم مدى صعوبة مباراة مانشستر يونايتد غدًا    يخدم 50 ألف نسمة.. كوبري قرية الحمام بأسيوط يتجاوز 60% من مراحل التنفيذ    "العيد فرحة".. موعد عيد الأضحى 2024 المبارك وعدد أيام الاجازات الرسمية وفقًا لمجلس الوزراء    برلماني: مصر قادرة على الوصول ل50 مليون سائح سنويا بتوجيهات الرئيس    مصرع شخص غرقاً فى مياه نهر النيل بأسوان    هيئة الأرصاد الجوية تحذر من اضطراب الملاحة وسرعة الرياح في 3 مناطق غدا    «على قد الإيد».. أبرز الفسح والخروجات لقضاء «إجازة الويك اند»    الغندور يثير غضب جماهير الأهلي بسبب دوري أبطال أفريقيا    بالصور.. وزير الصحة يبحث مع "استرازنيكا" دعم مهارات الفرق الطبية وبرامج التطعيمات    طالب يضرب معلمًا بسبب الغش بالغربية.. والتعليم: إلغاء امتحانه واعتباره عام رسوب    تأجيل محاكمة المتهم بقتل زوجته بكفر الشيخ لجلسة الخميس المقبل    أبو الغيط أمام الاجتماع التحضيري لقمة البحرين: التدخل الظولي بكل صوره أصبح ضرورة للعودة لمسار حل الدولتين    «أبوالغيط»: مشاعر الانتقام الأسود تمكنت من قادة الاحتلال    دعاء للميت في ذي القعدة.. تعرف على أفضل الصيغ له    «الداخلية»: ضبط 25 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    السيد عبد الباري: من يحج لأجل الوجاهة الاجتماعية نيته فاسدة.. فيديو    خسائر طائلة، عقوبة عدم الالتزام بدفع شروط التصالح في مخالفات البناء    مفتي الجمهورية يتوجه إلى البرتغال للمشاركة في منتدى كايسيد للحوار العالمى..    مصر تدين الهجوم الإرهابى بمحافظة صلاح الدين بالعراق    نموذج RIBASIM لإدارة المياه.. سويلم: خطوة مهمة لتطوير منظومة توزيع المياه -تفاصيل    "مقصود والزمالك كان مشارك".. ميدو يوجه تحية للخطيب بعد تحركه لحماية الأهلي    المندوه يتحدث عن التحكيم قبل نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    الإسكان: الأحد المقبل.. بدء تسليم الأراضي السكنية بمشروع 263 فدانا بمدينة حدائق أكتوبر    مجدي عبدالغني يثير الجدل بسؤال صادم عن مصطفى شوبير؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملحمة لم يتبق منها إلا الإكليشيه
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 12 - 2010


هذه مأساة عمل ظلمته شهرته.
إكليشيه يقال في حب الوطن، أو سخرية منه، مثل "مصر أمانة في رقبتك يا رأفت"، يختصر الآن ملحمة أدبية كبيرة، ملحمة عن الهوية، كيف يمكن للفرد أن يتخلص من هوية معينة ويعيش بأخري مختلقة تماماً، كيف يصير لزاماً عليه أن يصدق الأخري، مع خيط رفيع يصله بالأولي، كيف يعيش وسط مجتمع الأعداء، يتعاطف معهم ومع أزماتهم بشكل طبيعي، مع اليقين الحاد في نفس الوقت بأنهم لايزالون "أعداء"، وغير هذا الكثير.
في عام 1995، نشرت الزميلة هالة العيسوي بمجلة آخر ساعة حوارا أجرته الصحفية الإسرائيلية سمدار بيري مع صالح مرسي في صحيفة يديعوت أحرونوت. حمل الحوار الإسرائيلي عنوان "أنا لا أكره إسرائيل"، وكان لابد للوسط الثقافي المصري أن ينتفض، رغبة منه في معرفة الحقيقة من فم ذلك الرجل الذي صاغ لسنوات طويلة جزءا كبيرا من العقل المصري (والعربي) فيما يخص العلاقة باليهود وبالصراع المصري الإسرائيلي. اتصلت الزميلة بركسام رمضان بصالح مرسي فور نشر الحوار المترجم عن العبرية، قال لها في خبر نُشر في "أخبار الأدب" عن ملابسات الحوار الإسرائيلي: "سألتْ إنت تقول عنا إننا نحب الفلوس، فقلت لها إن الجاسوس يأخذ فلوساً مثله مثل أي جاسوس آخر، وهناك جواسيس كثيرون ليس اليهود فقط."
في العدد التالي حاورت أخبار الأدب صالح مرسي حواراً مطولاً، قال في إحدي فقراته: "هذا هو السؤال الغريب الذي بدأت حديثها به: لماذا تكرهنا؟ ورددت بسؤال أكره من؟ قالت تكره اليهود . قلت لها إن هذا غير حقيقي، أنا أكره الصهيونية وأنا ضد الصهيونية، قلت لها هذا بالتحديد، وقلت لها لا تنسي أن اليهود كانوا يعيشون بيننا في مصر في سلام ولو تذكرين فإن رأفت الهجان في الجزء الأول كان لأبيه صديقان، أحدهما يهودي اسمه عم زكي، والثاني مسيحي اسمه عم رزق، هذه ليست حكاية رأفت الهجان، هذه حكايتي أنا، هذان الصديقان كانا صديقين لوالدي.

قامت مؤخراً دار الشروق بإعادة نشر أربعة كتب لصالح مرسي، تنتمي أغلبها لأدب الجاسوسية، "سامية فهمي"، "الحفار"، "رأفت الهجان" و"ليلي مراد" وهو كتاب يضم حوارات مع المطربة المصرية الراحلة. لم يتم اتخاذ قرار بعد في مسألة نشر الأعمال التي لا تنتمي ل"أدب الجاسوسية" للكاتب، مثل "البحار مندي" وغيرها. إعادة النشر كانت، بحسب فادي عوض المحرر بدار الشروق، لأن "صالح مرسي كاتب مميز ولديه أسلوب خاص به، كما أنه استطاع الغوص في تاريخ مصر الحديث ليخرج لنا عملاً أدبياً من هذا، ولديه رصيد كبير من قراّء الأدب ومشاهدي التليفزيون علي حد سواء."
ولكن صالح مرسي لديه أشياء أخري أيضاً تضاف لهذا، من رواياته يمكننا مثلاً فهم أشياء كثيرة عن العلاقة باليهود، المصريين وغير المصريين، تلك العلاقة التي تظل ملتبسة وغير حاسمة حتي يومنا هذا وخاضعة للعديد من علامات الاستفهام.
علي مدار عقود طويلة، كان الموقف المعلن لليسار المصري والقوي التقدمية في هو العداء لإسرائيل، واحترام اليهودية كدين سماوي، وعدم اعتبار أتباعها ممثلين بالضرورة لإسرائيل أو للفكر الصهيوني. هذا كان هو الموقف المعلن، وليس شرطاً أنه كان الموقف الحقيقي.
تتيح لنا رواية "رأفت الهجان" تأمل العلاقة الملتبسة بين كاتب مصري وبين اليهود، اليهود المصريين بالتحديد في الجزء الأول، ثم الإسرائيليين في الجزئين التاليين. القصة، كما يعرفها كل شاب مصري تابع حلقات المسلسل في التسعينيات، هي قصة جاسوس زرعته المخابرات المصرية في بدايات تكونها داخل إسرائيل، وتبدأ من فترة تكون الفتي ("الفتي" كان هو الوصف الذي اختاره صالح مرسي لبطله الأسطوري علي مدار صفحات الرواية) كأفّاق مصري، ينتحل عدة هويات، مسلمة ومسيحية ويهودية، مصرية وفرنسية وإنجليزية، لكي يقلب عيشه، وعثور ضابط المخابرات "محسن ممتاز" عليه وتفكيره فيه كنواة محتملة لعميل مصري يخدم وطنه من داخل إسرائيل، التي كانت لاتزال كياناً وليداً في السنوات الأولي للثورة. يعيش الفتي بين أوساط اليهود المصريين لفترة لا بأس بها، بهويات متتالية، ليفي كوهين، ثم ياكوف بنيامين حنانيا، ثم في النهاية، دافيد شارل سمحون، قبل أن يسافر لإسرائيل ويبدأ في تكوين شبكته التجسسية هناك.
مرحلة تعايشه مع اليهود المصريين في السنوات الأولي للثورة هي الأهم هنا، هي التي تكشف عن علاقة المثقفين المصريين باليهود، لا في عام 1954، حيث تقع بداية الأحداث، بل في سنوات كتابة الرواية، والتي صدرت للنور في طبعتها الأولي عام 1986، أي بعد آخر موجة كبيرة لخروج اليهود بثلاثين عاماً.
تشير الرواية إلي بار استانبيلوس وإلي ركن اليهود فيه، ذلك الذي صار الفتي ملزماً بارتياده للتعرف علي حكايات اليهود ولتأسيس لنفسه تاريخاً من "النضال الصهيوني" بحثاً عن أرض الميعاد. يقول الكاتب عن ركن اليهود بالبار:
"كان يتميز بشيء خاص تماماً، وهو أن كل فرد من رواده، كان لابد أن تكون له علاقة بأحد الأركان الأخري... كان منهم صحفيون، ومنهم أصحاب المزاج، ولعيبة طاولة ودومينو، كما كان منهم التجار... لكن الواحد منهم _ بالرغم من هذا _ كان يعود دائماً إلي ركن اليهود لممارسة حياته الحقيقية بين بني جلدته... كان من المستحيل أن تجد واحداً منهم يعمل عملاً واحداً، أو يشغل وظيفة واحدة، وكانوا _ جميعاً _ مهتمين أشد ما يكون الاهتمام بكسب المال!"
هكذا نبدأ بالادعاء التقليدي _ الذي سيلازم الرواية علي طول صفحاتها _ ببخل اليهود، ولكننا نجد أيضاً الادعاء الأهم، المتسرب بين السطور هذه المرة، حياة اليهودي بين سائر المصريين ليست هي حياته الحقيقية، وإنما حياته الحقيقية هي بين بني جلدته من اليهود، اليهودي يهودي فحسب، ليس مصرياً ولا صحفياً ولا صاحب مزاج ولا لاعب طاولة ودومينو.
يبدو صالح مرسي حريصاً علي أن يسرب أفكاره ضد اليهود، من حيث هم يهود أحياناً، في هيئة الحقيقة العلمية، يبدو واعياً بشدة بهذا، ف"فراو سمحون"، زوجة رأفت الهجان الألمانية التي لم تكن تعرف شيئا عن طبيعته "ليست من أعداء السامية، وهي تري أن العداء لجنس من البشر نوع منحط من التخلف فرضته ظروف بعينها.. ولكن ثمة حقائق وصفات بالنسبة للأجناس تبدو كجزء من جيناتها وطبيعتها وتكوينها الديني والخلقي والاجتماعي والوراثي.. هي تعرف _ دون تحزب أو تعصب _ أن اليهودي إذا ما ساوم حول صفقة، أو بيع أو شراء أو مشاركة، سار في طريق من يريد أن يأخذ كل شيء، ولا يعطي شيئا علي الإطلاق... وكما اشتهر الإنجليز بالبرود اشتهر اليهود بالبخل.. هؤلاء هم اليهود في كل زمان ومكان وعصر. ولكن ديفيد لم يكن كذلك!"
هذا طبيعي. علي طول بدايات الرواية، بينما الزوجة لم تعرف بعد حقيقة زوجها الراحل، يتم التشديد علي ملاحظتها أن ديفيد لا يبدو شبيهاً باليهود في صفاته، وأنه يسعد بسماع هذا. هذه هي الغمزة التي يغمزها صالح مرسي لنا نحن القراء. نحن الوحيدون الذين نعرف أن ديفيد لم يكن إلا مصريا مسلماً.
بل وأكثر من هذا، تتسرب من ديفيد أحيانا بعض التلميحات الفكاهية ضد اليهود، الذين يفترض أنه منهم، يقول لزوجته وهو يساومها: "لا تنسي أنني يهودي"، يتطور التلميح في رواية أخري هي "دموع في عيون وقحة" ليصبح علي لسان يهودي حقيقي، ضابط استخبارات إسرائيلي يساومه جمعة الشوان فيهتف فيه حانقاً: "إنت إيه.. يهودي!؟"
يؤدي هذا السؤال هنا وظيفة مزدوجة، فهو يؤكد أولاً علي بخل اليهودي، ولكن أهميته تنبع من كونه صادراً من يهودي لحماً ودماً، وفي ما يشبه زلة لسان، أي من أعماق لا وعي اليهودي، أي، وشهد شاهد من أهلها. هذه الفكاهة كانت تثير موجات من الضحك من مشاهدي المسلسل وقراّء الرواية، لأنها نكتة لا تقوم بتهديدنا، نكتة تغازل ذواتنا الوطنية، نكتة تتمتع ب"اللطف" إذا جاز التعبير.

رواية "رأفت الهجان" هي عمل ملحمي عظيم، هي واحدة من النماذج القليلة التي تجتمع فيها صفتا "العمل الأهم" و"العمل الأشهر" للكاتب، ويمكن للأعمال الملحمية العظيمة أن تقع في أخطاء كتلك. ليس العمل العظيم بالضرورة هو العمل الذي يقول مقولات صحيحة إنسانياً، فشروط الفن غير شروط الفكر الإنساني. ومع هذا، فالعمل أعقد من أن نتهمه بالعنصرية ضد اليهود! صحيح أنه يمكن للناقد اتهام الرواية بمعاداة اليهود، وأن يريح باله بذكر فقرات كثيرة في الرواية تؤكد علي المعني بقوة، ولكن هذا لن يكون إلا نصف الحقيقة. واحد من أسباب أهمية رواية "رأفت الهجان" هي أن "قولبة اليهود" ليست هي حقيقته الوحيدة، هناك حقائق أخري، وهناك يهود طيبون يتناثرون علي طول صفحات الرواية، بل وإسرائيليون حتي. يمكننا استرجاع شخصية رجل الأعمال السكندري "شارل سمحون" الذي ساعد الفتي في مقتبل حياته وكان هو جواز سفره لإسرائيل _ بالمعني الحرفي، إذ أعطاه باسبوراً، كما، وهو الأهم، منحه اسم ابنه الراحل،
في لحظة مثيرة للعواطف. هكذا إذن، يعيش رأفت الهجان في إسرائيل مثقلا بالإحساس بالولاء لهذا المليونير اليهودي، الصهيوني، الذي كان يعمل علي تهجير النشطين بشكل غير شرعي لإسرائيل. يعيش باسم ابنه المفترض، ويرفض تغييره بشكل حاسم.
هناك كذلك شخصية "حنة بلومبرج" التي أحبها الفتي في إسرائيل، يهودية تعيش في الولايات المتحدة، وذات أراء معادية للصهيونية بقوة ويجادلها الفتي طول الوقت في آرائها، هو »المناضل الصهيوني« المفترض. وشخصية "سيرينا أهاروني"، اليهودية من أصول مصرية، والتي تتعاطف بشكل خفي، ومعلن أحياناً، مع المصريين. تحكي سيرينا للفتي عن طفولتها بمصر وقصة حبها لشاب مصري، قبل هجرتها لإسرائيل. قامت إسرائيل، وقامت حرب 56، وفوجئت بالشاب من ضمن الأسري المصريين، وهي اللحظة التي كانت مشحونة عاطفيا تماما بالنسبة لها. "كانت نشوة النصر المزيف قد خلبت لب الناس خاصة بعد أن جاءت أفواج الأسري المصريين كي توضع في المعتقلات! أقسم الفتي بأغلظ الأيمان أنها ذكرت كلمتي النصر المزيف وأنها كانت تعنيهما، بل إنها _ وقد رأت علي وجهه علامات الدهشة _ أعادتهما علي سمعه كي تؤكدهما!!"
وإستر بلونسكي، سكرتيرته في شركة السياحة التي أقامها بأموال شارل سمحون والمخابرات المصرية سوياً. لم تخف إستر أبداً كراهيتها المتعصبة للمصريين ولا حقدها عليهم. ومع هذا، فعندما يُطلب من الهجان قطع علاقته بها، لا يتمكن من هذا بسهولة، "كان موقنا أنه في ذلك العشاء الذي ستقيمه في مساء الغد علي شرفه سوف يقطع _ بسكين مرهف النصل _ كل علاقة له بهذه السيدة التي أعطته طوال سنوات ثلاث، كل شيء، كل شيء... أعطته الحب كما قدمت له صداقتها وأغرقته بحنانها بل وأمومتها الكامنة."
المثير للدهشة وللإعجاب أن صالح مرسي، وهو واحد من صناع الذاكرة الوطنية لمصر في العقود الأخيرة، لم يرتعش قلمه أبداً وهو يكتب عن هذه الشخصيات. هل كان واعياً أن "أنسنة العدو"، أي رؤيته كإنسان ورؤية تناقضاته الداخلية بعمق والإعجاب ببعضها وعدم الإعجاب ببعضها، لا تؤدي بالضرورة إلي إلغاء كونه عدواً ولا تفترض مسبقاً الوقوع تحت أسر شخصيته؟ ربما. علي العموم، فلقد ارتعش قلمه في موضع آخر.
علي طول صفحات الرواية، يلمح صالح مرسي إلي علاقة مركبة نمت بين جهاز المخابرات المصري والموساد الإسرائيلي. هذه العلاقة نتجت عن الصراعات المحتدمة بين جهازي المخابرات في الستينيات والسبعينيات، وأنتجت كماً لا بأس به من التشابهات بين أداء في فترة ما، الاثنان كانا يجندان العملاء بنفس الطريقة، وهي الادعاء بأن العميل يعمل لصالح "منظمة سرية للسلام في الشرق الأوسط". هل هو التشابه الحتمي الذي ينتج بين الإنسان وغريمه؟ يبدو الكاتب واعياً بشدة بهذه العلاقة المركبة، ويبدو مرتبكاً إزاءها. يتحدث عن أسلوب تجنيد العملاء في فقرات مطولة تحمل كلها نبرة الاستفهام:
"الغريب في الأمر أن المحقق في تلك الفترة _ بداية حقبة الستينيات.... سوف يكتشف أن كلا الجهازين، في عمليات بعينها هي عمليات تجنيد العملاء بالذات، كان يتبع أسلوباً واحدا، وكان الرجال من الجهازين يستعملون نفس الحجج، بل ربما نفس الكلمات!!"
"هذه ملاحظة نراها جديرة بالتوقف أمامها، لأنها تثير بالضرورة عددا لا بأس به من الأسئلة فهل كان هذا التشابه معلوما للطرفين منذ البداية؟... أم أنه ظل خافياً لفترة؟!"
"وهل بدأت الموساد بهذا الأسلوب، بصفتها الجهاز الأقدم، ثم التقطته المخابرات المصرية كي تطوره وتطوعه وفقاً لاحتياجاتها وأهدافها؟!"
"أم أن الظروف التي أحاطت بالمنطقة في تلك الحقبة ضيقت الخناق علي الجهازين معا فلم يجدا أمامهما سوي اتباع نفس الأسلوب ونفس الحجج."
هكذا يصيغ الكاتب أسئلته، في فقرات تبدو اعتذارية أو مبررة، ولكنها لا تتنصل أبداً مما يراه الكاتب بوصفه "حقيقة".

إن كان ثمة درس أدبي يمكننا تعلمه من "رأفت الهجان" فهو كيف يمكن صياغة قصة طويلة، يبلغ عدد صفحاتها حوالي ألف صفحة، بحسب طبعة دار أبولو، من دون الإحساس بالملل أبداً. خاصة في صراع استخباراتي لا يحوي أي قدر من الأكشن (بالمقارنة بصراعات أدهم صبري الاستخباراتية، أو حتي صراعات فيلم "أولاد العم"). المشاعر الإنسانية هي ما يتكئ عليها هنا كثيرا. تعلُق الفتي بضابط المخابرات محسن ممتاز، تعلقه بشريفة أخته، وحتي تعلقه بالضابط الذي لم يلتقه ولا مرة في حياته، عزيز الجبالي، والذي ظل مع هذا يشعر بوجوده، يشعر أن ثمة شخصاً علي الجانب الآخر يحاوره شخصياً، ويعرفه، ويوجه له الحديث بشكل حميمي ومباشر في شفرات اللاسلكي الجافة التي كان يبعث بها إليه.
بكاء الرجال هو تيمة مركزية في العمل، لا يبدأ الكاتب به، يبدأ ببكاء شريفة، أخت رأفت العاطفية التي تعشق أخاها حد الوله، ويعشقها هو بنفس القدر أيضاً. منذ الجزء الأول يطالعنا هذا الكريشندو الحواري بين رأفت وشريفة في التليفون: "رأفت!/ إزيك يا شريفة!/ إنت الجهازين، الاثنان مثلاً تفوقا في صناعة الأحبار السرية فين؟!/ أنا....../ وكنت فين طول المدة دي؟/ أصل الشغ........./ وبتتكلم منين؟!/ من شارع قص....../ شغلتني عليك!/ يا شر........./ يعني مش حاشوفك؟!/ أمال انا باتكلم ليه؟!/ اختنق صوتها ثم انفجر مغموساً في دمع فياض: طب ما تيجي يا رافت دانت وحشتني قوي!"
ويتكرر هذا الكريشندو، ولكن بشكل أطول هذه المرة، في الرسالة التي حملها لشريفة سهيل باتع من أخيها المقيم في إسرائيل. مع الوقت، وتقدم أحداث الرواية، تمتد تيمة البكاء إلي رجال المخابرات أنفسهم، فبعد أن طالعنا في الجزء الأول وجه محسن ممتاز صلب الملامح، القاسي، نجد في الأجزاء التالية شخصية عزيز الجبالي، القرين الروحي (والعاطفي الذي يحاول إخفاء مشاعره ولا ينجح غالباً) لرأفت الهجان علي الطرف المصري للصراع. نجد لحظات تأثر ودموع من سهيل باتع ونديم هاشم، والضباط الأحدث الذين لازموا شيخوخة الهجان. تبدأ الرواية بالنصيحة الذهبية التي يلقنها "الأستاذ إسماعيل" علي مسامع رجال المخابرات الأوائل، أثناء بداية تكون هذا الجهاز العملاق، وهي "لا دخل للعواطف في العمل" و"إياك والوقوع في حب العميل"، من هنا تأتي أهمية لحظات البكاء، كونها تعدياً علي المبدأ المؤسس، كونها تأتي اختراقاً أو تهديداً وتلميحاً بالفوضي التي تشيع في قلب النظام.
لكن لحظات البكاء تزداد كلما تقدمنا في الرواية، كأننا نري هنا كاتباً أعجب بلعبته فظل يكررها، حتي فقدت معناها، وحتي مهدت الطريق لتحول ملحمة "رأفت الهجان" إلي إكليشيه ألفيني ساخر عن حب الوطن. ولكن صالح مرسي يعي هذا بقوة. لفقرات مطولة يتحدث عن شخصية خالد عز العرب، ضابط الاتصالات الذي يعلم رأفت الهجان مبادئ اللاسلكي، ذو العقلية العملية التي لا تعرف العواطف، والذي يحضر الكثير من اللحظات المشحونة بالعمل والتوتر العصبي بين الهجان ونديم هاشم، فيبكي في كل مرة، "قال خالد إنه يعترف أن دمعة حاولت الفرار من عينيه. لكنه مسحها قبل أن تسقط"، هذه مرة، ولكن في مرة أخري يقول الكاتب "وتساءل خالد عز العرب عن تلك الظاهرة الجديدة في حياته، فلقد أصبح كلما تأثر من شيء، يدمع بالرغم منه."
لبكاء الرجال دائماً معان أعقد من مجرد البكاء، علي خلفية حقيقة يتعلمها الرجال في الصغر وهي أن "الرجل لا يبكي"، يصبح للبكاء هنا معني التناقض. هذا هو الذي شحن العمل بكل هذا القدر من العواطف، خاصة أن الرجال محل الحديث هنا هم رجال من نوع خاص، رجال مخابرات، يفترض أنهم قساة وكتومون. هكذا يستعين مرسي بتيمة أدبية قديمة لا تفقد تأثيرها علي مر الأيام، تيمة "بكاء الرجل" ليطبقها علي أناس آخرين، أكثر صلابة من الرجال العاديين، وبالتالي فهم أكثر "رجولة" في الوعي العام ربما.

واحد من العناصر المبهرة في العمل، هي وعي الكاتب بكل المقولات التي يرددها والتي تبدو خطراً علي نظامه الأدبي. يبرر اتهام اليهود بالبخل بالقول أن هذه ليست عنصرية وإنما ما يشبه "حقيقة أنثروبولوجية"، مع خلقه لشخصيات يهودية لا تتسم بالبخل، يجعل بطله يغرق في حب الإسرائيليات مع وعيه بأنهن لا يحببن "رأفت الهجان" فيه وإنما "ديفيد شارل سمحون"، يلاحظ التشابه بين أداء جهازي مخابرات عدوين فيحاول تقديم الاعتذار لهذا أو تبريره، مع عدم التنصل منه.
هنا كاتب يكتب بيد مرتجفة، أو أنها علي العكس، قد تكون طليقة أكثر من اللازم، فتأتي الكتابة مشابهة تماماً لشخصية صاحبها، ومشابهة لشخصية الإنسان في عمومها، مرتبكة، تقول الشيء ونقيضه، لا يمكن سجنها في مقولة واحدة متجانسة، مثلما هي الأعمال العظيمة كلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.