قبل أن يرحل المفكر الكبير فؤاد زكريا (7291 - 0102 ) بأيام قليلة، نشرت في صفحة الرأي بجريدة روز اليوسف الغراء (24 فيراير الماضي) مقالا بعنوان "الشعب صنيعة حكومته" تناولت فيه الإبداع الفلسفي والسياسي عند فؤاد زكريا من خلال كتابة العلامة (اسبينوزا) ومناقشته للعلاقة بين اللاهوت والسياسة والحاكم والمحكوم. هذا الإبداع كان ملازما له منذ بواكير كتاباته ، وتجلي بصورة خاصة في كتابه (الإنسان والحضارة) عام 1957، الذي كشف فيه بجلاء عن فيلسوف الحضارة الذي شرب حتي الثمالة التراث المصري القديم والتراث الغربي أيضا، فضلا عن الطبقات الجيولوجية الحضارية: اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية والعربية. هذا الكتاب في تصوري هو : المكمل والمتمم لكتاب العبقري طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938. بين الكتابين عقدان من الزمان تقريبا، شهدا تحولات عميقة، عالميا وإقليميا، أبرزها : نهاية الحرب العالمية الثانية، انقسام العالم إلي معسكرين كبيرين، ظهور الاستقطاب الإيديولوجي والحرب الباردة، زرع اسرائيل في قلب العالم العربي، ظهور حركات التحرر والاستقلال في العالم الثالث، ثورة يوليو 1952 . أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك، فقد تمثلت (عمليا) في صيغتين أساسيتين، وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلا منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولم تكن التحولات العميقة السابقة سوي تكريس وتدعيم لهما معا. الصيغة الأولي عرفت بالتوفيقية، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للأولي، وهي صيغة "إما.... أو". ونستطيع أن نرد"التوفيقية"وما يتفرع عنها من مسميات مثل "الوسطية" و"التعادلية" و"الاتزان".. وغيرها، إلي ما قرره الإمام محمد عبده، قبل أكثر من قرن، إذ قال: "ظهر الإسلام لا روحيا مجردا، ولا جسدانيا جامدا، بل انسانيا وسطا بين ذلك، آخذا من كل القبيلين بنصيب، ثم لم يكن من أصوله (أن يدع ما لقيصر لقيصر) بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر علي ماله ويأخذه علي يده في عمله". (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، ط3، دار الهلال 1959، ص، 95). لكن يبدو أنه كانت هناك صيغة أخري طرحت علي المستوي السياسي والإجتماعي، لم ينتبه إليها سوي القليليين من المفكرين الجذريين في مقدمتهم فؤاد زكريا ، هي صيغة "التحرر والاستقلال"التي وجدت طريقها إلي التطبيق في بعض الأمور مع ثورة يوليو 1952، إلا أن أخطاء رجالها ومغامراتهم غير المحسوبة، فضلا عن القوي الدولية، أو قل النظام الدولي السابق، لم يسمح للتجربة باستكمال دورتها، وهو ما فعله النظام الدولي الأسبق مع تجربة محمد علي أيضا. كان فؤاد زكريا في الثلاثين من عمره حين أصدر كتابه "الإنسان والحضارة"، لاحظ دلالة العنوان، الذي صفي فيه حساباته مبكرا مع الصيغتين الفكريتين المطروحتين في النصف الأول من القرن العشرين، وسعي إلي تأصيل صيغة "التحرر والاستقلال" علي مستوي الفكر والثقافة، التي ظلت علي مختلف المستويات الأخري مجرد "شعار".. وكأنه علي موعد مع "نيتشه" الذي لم تبق من أقواله في أذن فؤاد زكريا سوي عبارة "كن نفسك". وتلك كانت مفارقة، تسترعي الانتباه والتأمل، بين "الفكر والواقع" في هذا المنعطف التاريخي، إذ إن ما آمن به فؤاد زكريا وسعي إلي تأصيله بالفعل كان يتناقض عمليا مع مجريات الأمور في الواقع المصري الذي "أبي" بدوره أن يتنازل عن الصيغة التوفيقية، بل وعاد بها إلي مكونتها الأولي وهي صيغة (إما... أو). ففي عام 1957 كان عبدالناصر قد تقلد مقاليد السلطة بالفعل، وكان قراره بتأميم "قناة السويس"، وهو ما ألب عليه القوي الدولية بالعدوان الثلاثي علي مصر عام 1956، الذي خرج منه منتصرا علي المستوي السياسي والشعبي كأهم زعيم عربي في المنطقة، وتلك كانت الخلفية التي ظهر فيها كتاب "الإنسان والحضارة" الذي ضمنه زكريا مجمل أفكاره ورؤاه ومواقفه من مختلف الثنائيات القائمة (كانت الثورة نفسها عنوانا لهذه الثنائيات وتجسيدا لها، وكانت تضم أجنحة متباينة من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، وظلت تلعب بهما معا سواء بالتوازي أو التقاطع، بالصراع أو التوافق). وبذكاء شديد اختار زكريا موضوعا فلسفيا كان مطروحا علي بساط البحث، هو التفرقة بين "الحضارة" و"المدنية". في حين أن المفكرين السابقين عليه والمعاصرين له، لم تكن تشغلهم قضية "التعريف" بقدر ما شغلتهم اشكالية المضمون والمحتوي. يقول: "الحضارة والمدنية مترادفان، لا سبيل إلي وضع حد فاصل بين المجالين، هذا الرأي هو ما نرجحه في النهاية " (ص- 12)." إن فكرة (الثنائية) كامنة وراء مثل هذه التفرقات بين الحضارة والمدينة، بين وجهين للنشاط الإنساني: وجه روحي خالص، ووجه يتصل بالمادة، والاعتماد علي هذه (الثنائية) في توضيح معني الحضارة يؤدي إلي عكس المقصود منه." (ص-17). لذا "فالأجدر بنا أن نستخدم لفظي الحضارة والمدنية بمعنيين متقاربين، وأن نؤكد وجود اتصال مباشر بين الأوجه العملية لنشاط الإنسان وبين الأوجه الثقافية والروحية الخالصة له، فنشاط الإنسان لا يسير في طريقين منفصلين. ومادمنا نتحدث في مجال الحضارة، فعلينا أن ننظر إلي أفعال الإنسان علي أنها تكون في مجموعها وحدة متصلة لا أهداف مشتركة وتأثيرات متبادلة" (ص- 19 ).