في المقال السابق ذكرنا كيف أن السفير هرمان إيلتز الذي عين سفيرا للولايات المتحدة في القاهرة كان قد تخصص في شئون الشرق الأوسط ضد رغبته بعد اجتيازه امتحان الخارجية الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكنه وجد أن العالم العربي منطقة مثيرة جدا للاهتمام ولذلك عزم إذا ما خرج من الحرب سالما حيث كان قد انضم إلي الجيش أن يستمر في هذا التخصص. بعد دخوله الجيش تبين لقواده أنه درس اللغة العربية لمدة أربعة شهور ولكنهم عدوه أكبر متخصص في هذه اللغة ولذلك ألحقوه بقسم يتعامل مع الشئون العسكرية الخاصة بالشرق الأوسط وبعد انتهاء الحرب الحقته الخارجية بقسم الشرق الأوسط، كان أول منصب له في السفارة الأمريكية في جدة يقول: إيلتز أن المسئولين في شركة "أرامكو" الأمريكية للبترول كان تواجدهم في السعودية قبل وصول السفارة الأمريكية هناك كانوا ممتازين وعلي علاقة طيبة مع المسئولين وأمدوا السفارة بالكثير من المعلومات ولكن السعوديين كانوا ينظرون إلي هذه الشركة باعتبارها السلطة الأمريكية المعتمدة في السعودية وهو أمر عمل السفير الأمريكي علي توضيحه لهم بأنه يتوجب عليهم التحدث مع السفارة باعتبارها الممثل الرسمي لواشنطون في المملكة. وقد استغرق ذلك بعض الوقت ولكن مما ساعد علي تحقيقه هو ما حدث عام 1947 / 1948 بعد نشوب حرب فلسطين وإنشاء إسرائيل وهو أمر استاءت منه السعودية بشدة وخاصة من الموقف الأمريكي وشعر الأمير فيصل "الملك فيصل بعد ذلك" الذي كان وزيرا للخارجية أن وزير الخارجية الأمريكية مارشال قد خدعه بعد تصويت الولاياتالمتحدة إلي جانب قرار 181 في الأممالمتحدة الذي قضي بتقسيم فلسطين، ينفي "ايلتز" أن يكون مارشال قد حاول أن يفعل ذلك وهي حقيقة بالفعل إذ إن مارشال عارض اتجاه الرئيس ترومان نحو سرعة الاعتراف بإسرائيل يقول إيلتز بالطبع فإن شركة أرامكو حاولت أن تنأي بنفسها عن هذا الأمر وكانت سعيدة بأن تتركه للسفارة الأمريكية وهو ما أقنع السعوديين تدريجيا بأن عليهم التعامل مع السفارة وليس الشركة، إضافة إلي أن الخارجية السعودية كانت في جدة مقر السفارة وليس في الظهران مقر الشركة. يقر إيلتز أن السفارة أمكنها أن تزود واشنطون بمعلومات أفضل وأكثر عن السعودية وسياستها الخارجية عما كانت شركة أرامكو تقوم به في السابق وخاصة حول علاقات السعودية مع العالم العربي الاستثناء الوحيد هو عند نشوب مشكلة واحة "البوريمي" (الخاصة بترسيم حدود السعودية والتي دافع عنها القانوني المصري حلمي بهجت بدوي القاضي السابق في محكمة العدل الدولية) عام 1950 وذلك في نزاع مع بريطانيا التي كانت تحتل مناطق الخليج الأخري وهنا تدخلت شركة أرامكو أكثر من السفارة وساعدت السعودية في إعداد بعض الدراسات الخاصة حول انتماء القبائل بهذه المناطق خلال عشرات السنين وهو ما ساعد السعودية في دعم موقفها أمام هيئة "التحكيم". بعد جدة عاد إيلتز إلي واشنطون حيث التحق بدورات متقدمة في اللغة العربية، وهو يقول إن هذه الدورات كانت متخصصة للتحدث باللغة العربية أكثر من كتابتها ولكن في جامعة بنسلفانيا التي التحق بها كانت الدراسة هي حول العربية الكلاسيكية تحت إشراف الأستاذ "فرانز روزنتال" الخبير الممتاز في رأيه في الدراسات العربية ولم تقتصر دراساته علي اللغة وإنما علي تاريخ العرب وثقافتهم وعاداتهم وهو ما استفاد منه كثيرا في عمله في العالم العربي فيما بعد. عام 1951 ألحق بالقنصلية الأمريكية في عدن مختصا بمتابعة الشئون اليمنية حيث لم يكن للولايات المتحدة تواجد في صنعاء "الإمام أحمد إمام اليمن في ذلك الوقت كان يتحاشي أي تواجد أجنبي في بلاده حتي السفارات" وكان ذلك مفيدا لأن الكثير من العدنيين كانوا يزورون اليمن، كما كان هو والقنصل الأمريكي في عدن يذهبان أول كل شهر إلي مدينة "تعز" اليمنية في زيارة لمدة عشرة أيام وبعدها يرسلان تقاريرهما إلي واشنطون. يقول ايلتز إن بلاده لم تكن تريد في هذه الفترة أن تكون منغمسة في شئون اليمن لأنه بصراحة لم تكن لها مصالح هناك، ولكنها اضطرت أن تتدخل في موضوع النزاع بين اليمن وبريطانيا حول الحدود. كانت بريطانيا تحتل عدن في ذلك الوقت، وهي التي شكلت منها بعد الاستقلال مع مناطق أخري اليمن الجنوبي الذي دخل بعد ذلك بسنوات طويلة في وحدة مع اليمن الشمالي وتكوين الجمهورية اليمنية، نتابع الآن كما نعرف هناك محاولات من بعض القوي الجنوبية الآن للانفصال. يذكر ايلتز أن كلا من اليمنيين والبريطانيين كانوا يطلبون تأييد الولاياتالمتحدة لموقفها وهو أمر حاولت واشنطون تجنبه وفيما يتعلق بالمصالح الأمريكية فقد بدأت مناقشة برنامج للمساعدات الاقتصادية الأمريكية لليمن وهو البرنامج الذي بدأ بعد مغادرته لعدن، حيث كان هناك تردد من جانب الامام أحمد لقبوله لعدة أسباب منها أن التمويل في رأيه كان غير كاف ولم يوافق علي أن تقدم اليمن تقارير حول أوجه صرف هذا التمويل باعتبار أن ذلك يتعارض في رأيه مع استقلال اليمن. يتحدث "ايلتز" عما اسماه بمغامرة "وندل فيليبس" وهو عالم آثار أمريكي أو هكذا أدعي الذي حصل علي تفويض من الحكومة اليمنية لبدء بعض الحفائر في منطقة مأرب "مكان سد مأرب الشهير منذ عهد الملكة بلقيس ملكة سبأ في قديم الزمن"، وأحضر معه مجموعة من الشبان أغلبهم لا خبرة لهم بالآثار استاء الإمام فيما بعد من عملهم وخاصة عدم تمكنهم بين العثور علي أي آثار ملموسة ولذلك ألغي التصريح الممنوح لهم، كان فيليبس في الولاياتالمتحدة يحاول جمع أموال التمويل العملية، عاد بسرعة إلي اليمن وأمكنه إقناع الإمام بمد المهلة له لعشرة أيام فقط من أجل إعادة المعدات الفنية التي أحضرها من أمريكا وفجأة هرب وندل ورفاقه "كان ذلك عام 1951" عبر الصحراء إلي عدن مدعيا أن اليمنيين كانوا يريدون قتله وأنه ترك وراءه معدات تقدر قيمتها بمئات الألوف من الدولارات وأنهم بالكاد تمكنوا بالإفلات بحياتهم بأعجوبة. استغرق حل هذه الأزمة بين واشنطون واليمن أكثر من سنة، إذ كانت السلطات اليمنية في حالة غضب شديد ولكن وندل فيليبس هذا كان مدعوما بشخصيات مهمة في أمريكا الذين أمطروا الخارجية الأمريكية بخطابات لتدعيمه علي أساس أن اليمنيين أساءوا معاملته الخ.. وتبين في النهاية أن وندل خرق العقد المبرم بينه وبين صنعاء ولذلك طرده الإمام الذي استنكر بشدة الاتهامات بأن اليمن كانت تريد قتله، وظهر أنه كان مدينا لعدد من القبائل اليمنية بأموال مستحقة عليه تبلغ 8000 ماريا تريزا وهي العملة الفضية التي صكتها امبراطورة النمسا عام 1792 واستمرت للغرابة في التداول في اليمن طوال هذه المدة حتي الخمسينيات وظهر لواشنطون أن وندل فيليبس هذا مجرد نصاب محترف إذ اتضح لها أن معدات التنقيب عن الآثار التي ادعي أن قيمتها مئات الألوف من الدولارات هي مجرد إطارات قديمة للسيارات وماكينة كوكاكولا لا تعمل. بعد مغامرات "هرمان ايلتز" في عدن واليمن نطلع في حلقة قادمة علي ما فعل بعد انتهاء عمله في هذه المنطقة.