في الحلقة السابقة حدثنا السفير هرمان إيلتز الذي عين في عهد الرئيس كينيدي سفيرا لواشنطن في القاهرة عن عمله قبل ذلك رئيسًا لقسم الجزيرة العربية بالخارجية الأمريكية ومسئولا أيضًا عن موضوع اللاجئين الفلسطينيين وهناك بدأت صلاته بمصر. يقول إيلتز إن المشكلة في هذه الفترة كانت أن الكونجرس الأمريكي كان متضايقا من أن الولاياتالمتحدة تقوم بتمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين عامًا بعد عام بمبلغ 23 مليون دولار (مبلغ زهيد جدًا بالمقارنة بما كانت تقدمه واشنطون لإسرائيل المسئولة عن خلق مشكلة اللاجئين). ولما كان حل مشكلة اللاجئين مستعصيا في رأي واشنطون، ولكنه كرئيس قسم اللاجئين تمكن من عند اتفاق مع الكونجرس الذي قبل اقتراحه باقتطاع جزء من حساب الجنيهات المصرية التي كانت الحكومة المصرية تدفعها مقابل الحصول علي قمح ودقيق أمريكي، علي أن يدفع هذا الجزء علي أساس أنه مساهمة من أمريكا لوكالة غوث اللاجئين وأن يخصص للإنفاق علي اللاجئين في قطاع غزة. كان عليه بالتالي إقناع وزارة الزراعة الأمريكية بتخصيص جزء من مدفوعات مصر مقابل الدقيق الأمريكي لهذا الغرض، كما أقنع القاهرة بذلك . من العادات الحميدة في وزارة الخارجية الأمريكية هو إتاحة الفرصة أمام دبلوماسييها بعد مرور فترة علي خدمتهم لأخذ إجازة رسمية للالتحاق بإحدي الجامعات لدراسات عليا أو متخصصة. وحتي الدرجات العليا من الدبلوماسيين يقومون بذلك. ولذلك التحق إيلتز لمدة عام سنة 1961 بوكالة الحرب الوطنية الأمريكية ثم عين عام 1962 بالسفارة الأمريكية في لندن مسئولا عن قسم الشرق الأوسط علي ضوء العلاقة الوثيقة بين بريطانيا ودول المنطقة وخاصة فيما يتعلق باليمن. يقول أنه بعد شهر من وصوله إلي لندن توفي الإمام أحمد إمام اليمن وخلفه ابنه محمد اليدر، وبعدها قامت ثورة من قبل الجيش اليمني الذي قصف مقره في صنعاء واعتقد أنه قد مات في هذا القصف، ولكن تبين أنه تمكن من الفرار والتجأ إلي القبائل الزيدية في شمال اليمن مما أدي إلي نشوب حرب أهلية بين الجمهوريين الذين قاموا بالثورة والملكيين. يضيف أن مصر أيدت الجمهوريين والسعودية ساندت الملكيين ولما كان عبدالناصر يصف الكيانات العربية بالرجعية، فإن السعوديين استاءوا من ذلك كثيرًا. اعترفت الولاياتالمتحدة بعد أشهر بالجمهورية العربية اليمنية في حين استمرت بريطانيا في الاعتراف بالملكيين. ولذلك كانت مسئولية إيلتز في لندن هي متابعة الأمور بما فيها التأييد البريطاني للملكيين في اليمن ولو لم تكن الحكومة البريطانية تعلن ذلك علانية مع أن عددًا من أعضاء مجلس العموم البريطاني كانوا يجاهرون بذلك ويطالبون واشنطن بعدم المضي بعيدًا في تأييد الجمهوريين الذين كانوا لا يسيطرون علي جزء يهم من اليمن. كان البريطانيون يؤكدون أنه لو انسحب المصريون من اليمن لانهار النظام الجمهوري. كانت وجهة نظر واشنطن أن الإمام البدر وأتباعه هم من النظام البائد المتهالك ويجب التخلص منهم وأنه في الواقع هناك تأييد عام للجمهوريين أكثر مما يقول البريطانيون. ولذلك كانت واشنطنولندن علي طرفي نقيض في هذه المسألة مما أثر علي علاقات كلا البلدين مع مصر. بريطانيا بالطبع كانت لها مشاكلها في الماضي مع عبدالناصر وهو ما ألقي بظلاله علي علاقات واشنطنولندن نحو السعودية. جاء ذلك في الوقت الذي كانت فيه الدولتان تسعيان إلي التنسيق في سياستهما نحو منطقة الشرق الأوسط وهو الأمر الذي أثرت عليه حرب عام 1956 (العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي ضد مصر) إلي جانب - بالطبع - الحرب العربية الإسرائيلية. يقول إيلتز إنه يعترف بأن البريطانيين كانوا أذكي منهم ليس فيما يتعلق بالقضية نفسها (أي مشكلة اليمن) ولكن في استغلال رجلهم في سفارتهم في واشنطن - المقابل لإيلتز في السفارة الأمريكيةبلندن - حيث كانوا يزودونه أولاًَ بأول بالمعلومات الضرورية ويلقنونه بما عليه أن يخبر الخارجية الأمريكية. ولم يكونوا يطلعون عليها إيلتز إلا فيما بعد. لم يكن نتيجة عدم ثقة فيه حيث إنه كان ملما كثيرًا بأمور اليمن والسعودية أفضل من الكثير من البريطانيين، ويؤكد أن واشنطون لم تستخدم مطلقا هذا الأسلوب البريطاني. لم تنته مشكلة اليمن لعدة سنوات حتي عندما عين إيلتز سفيرا لبلاده في السعودية، وبمرور الوقت اقترب البريطانيون من الموقف الأمريكي والعكس صحيح، ولكن نشأت خلافات بين العاصمتين حول مشكلة قبرص عندما قام الأسقف مكاريوس عام 1963 بإلغاء التمثيل التركي في الجزيرة بالمخالفة مع الدستور القبرصي مما أغضب تركيا كثيرًا. قبل تعيينه سفيرا في السعودية تولي إيلتز منصب نائب السفير الأمريكي في ليبيا ولكن لفترة قصيرة. يقول إنه لم يكن يرغب في الذهاب إلي ليبيا وكان يود أن يعين نائبا للسفر الأمريكي في إسرائيل، وبالرغم من أن المسئولين بالخارجية الأمريكية دعموا رغبته ولكن إدارة الموظفين بالوزارة لم توافق علي ذلك. وكما يحدث في كثير من وزارات الخارجية في أنحاء العالم، حيث تلعب الصدفة عاملاً مهما في التعيينات الدبلوماسية، عين زميله الذي كان منقولا كنائب السفير في إسرائيل كسفير في إحدي الدول الأفريقية، وأعتقد إيلتز أن هذا سيعزز مطلبه. رشح إيلتز لهذا المنصب ولكن هاريمان نائب وزير الخارجية الأمريكي أصر علي أن يذهب إيلتز إلي طرابلس لأن واشنطن في ذلك الوقت كانت لديها مشاكل مع ليبيا فيما يتعلق بقاعدة هويلس الجوية في طرابلس، وكان يريد أن يشارك مع وفد التفاوض الأمريكي مع السلطات الليبية. يقول إيلتز إنه لم يكن سعيدًا بالمرة عندما ذهب إلي ليبيا وهو أمر عبر عنه إلي سفيره في لندن دافيد بروس الذي أجابه بألا يقلق حيث لن يظل في طرابلس لأكثر من عام. وفي الواقع بعد مرور عام عينت واشنطن دافيد نيوسوم سفيرًا لها في ليبيا وبذلك انتفت الحاجة إليه وتلقي برقية من واشنطن تقول أن الرئيس جونسون يرغب في تعيينه سفيرًا في السعودية، وسألته عما إذا كان يقبل ذلك في حالة إعلان الرئيس لهذا التعيين. تبين له أن ثلاثة أشخاص كانوا وراء ترشيحه لهذا المنصب: إدارة الشرق الأدني بالخارجية وجورج بول وكيل الخارجية الذي عمل معه في مشكلة قبرص ودافيد بروس سفيره السابق في لندن. يصف إيلتز مهمته في السعودية كانت تهدف في المقام الأول إلي عودة العلاقات بين البلدين إلي دفئها السابق وخاصة بسبب الخلافات بينهما حول اليمن التي شعر الملك فيصل بالذات بالاستياء من موقف واشنطن فيها. وصل إلي جدة خلال شهر رمضان وافترض أنه بسبب ذلك فلن يستطيع تقديم أوراق اعتماده إلي الملك فيصل، ولكن لدهشته طلب منه أن يفعل ذلك في اليوم الثالث لوصوله. بعد مراسم قصيرة جدًا أخذه الملك إلي مكتبه الخاص وتحدث معه لمدة ساعتين عن مشكلة اليمن وأكد له قصر نظر واشنطن. وفي نفس الفترة فإن المبعوث الأمريكي الزورث بانكر أعتقد أنه حقق نجاحًا في هذا الشأن عندما أقنع كلا من المصريين والسعوديين بعقد اجتماع يجمعها في مدينج حرج في اليمن لحل المشكلة بالتفاوض. المصريون كانوا يؤيدون الجمهوريين والسعوديون يؤيدون الملكيين. وكان من المفترض نظريًا أن يجلس الجانبان اليمنيان مع بعضهما البعض للتفاوض. وفي الوقت الذي وصل فيه إيلتز إلي السعودية، توصل الملك فيصل إلي قناعة بأن الرئيس عبدالسلام أخل بالاتفاق، إذا بدلا من تنفيذ ما وعد به ما فإنه أرسل قوات مصرية إضافية إلي اليمن ولم يبد الناصريون المصريون - من وجهة نظر الملك فيصل - أي علامة علي موافقتهم علي عقد مؤتمر مدينة حرج. في الحلقة القادمة يحدثنا إيلتز عن موقف السعودية تجاه عبدالناصر والنزاع العربي الإسرائيلي.