لن أسترسل في تحليل أحداث عيد الميلاد الدامية التي شهدتها مدينة نجع حمادي بل ولن أقترب منها فالفم مملوء ماء أخشي أن ينسكب حال فتح الفم بكلام قد يحسب خروجاً علي إجماع العقلاء وقد يخاله البعض زيتاً يصب علي نار مستعرة والقلب هلع لا علي تلك المدينة وحسب بل علي وطن يدفع دفعاً للانتحار وهو يري قلوباً باردة وعقولاً تجمدت في برودة تحت الصفر بدرجات فقد بقيت لنا أوراق تحقيق مستوفاة بحسب موروث بيروقراطي عتيد ستنتهي بجناة مباشرين وشهود ثقاة وهيئة دفاع متمرسة في درء التهم عن موكليها ثم نهنئ أنفسنا بالعدالة الناجزة ونغسل أيدينا ونسترخي بانتظار الأسوأ الذي لم يأت بعد وخلف الأحداث يقف جيش محللين يحللون الأحداث بالمعني الفكري ويحللون مبرراته بالمعني الشعبي أي يعطونها مشروعية أمام الكاميرات وخلف الميكروفونات يستدعون كلمات رتيبة يرددونها في سرادقات تشيع جثامين المواطنة والعدالة والشفافية حفاظاً علي هيبة متخيلة وتعايش مفقود ويلونون الوقائع لتصب في تسطيح مخل يعطونا من طرف اللسان حلاوة ويروغون منا كما يروغ الثعلب وحتي الجادون لا يجدون من يسمعهم أو يأخذ تحذيراتهم مأخذ الجد. وهذا التوصيف ثقيل علي آذان تنتظر أن تستمع لمن يدغدغها وينطبق بغير نقصان علي معالجاتنا المتكررة حتي اليوم وربما الغد أيضا ومنذ عام 1972 مع أحداث الخانكة والتي بادر مجلس الشعب للمرة الأولي والأخيرة بتشكيل لجنة برلمانية لتقصي الحقائق قدمت تقريرها الموضوعي له رصدت فيه المسببات الحقيقية للاحتقان الطائفي وطرحت مداخل لمواجهته وبدلاً من أن يترجم إلي برامج عمل تفض هذه الحالة سارعت أيد غير منظورة لإخفائه بعيداً وكأنه رجس يجب وأده والتخلص منه وكأنه حمل سفاح. وفي هذه الأجواء الميلودرامية تقفز من الذاكرة رواية صدرت بالقاهرة عام 1997 بعد أن بقيت حبيسة أدراج الكاتبة لنحو عشر السنوات للباحثة الدكتورة مارلين تادرس بعنوان سدوم.. سدوم وهو اسم لمدينة ذكرت في التوراة كانت توصف بأنها كجنة الله كأرض مصر ولكنها انغمست في الشرور بحسب توصيف التوراة وكان أهل سدوم أشراراً وخطاة لدي الرب جدا فحل عليهم غضب الله وابيدت زرعاً وحرثاً وبشراً علي خلفية هذه المدينة تبني الكاتبة روايتها في توقيع علي مدينة متخيلة تتسم بالتدين الشديد ربما لتقول أن حالها بتدينها الشكلي لا يقل فداحة عن تلك المدينة الآثمة وتستهل الرواية بإهداء تكتب فيه إلي إلهي: لا تدمر المدينة. ولن أستعرض الرواية إنما أتوقف مع القارئ عند الاستهلال الذي يسبق فصولها والذي تقول فيه: احرقوهم ارجموهم وقفت تستمع إلي الترنيمة بنغماتها المتصاعدة.. لم يكن الجو هستيرياً بل علي العكس تماماً كان يسوده الهدوء والاتزان.. أخذت تتأمل وجوههم وهم يرنمون: لماذا هم هكذا متشابهون؟ توائم، ثلاث، أربع.. لم تستطع التعرف علي أحد منهم.. لكن أين الأطفال؟ نظرت حولها في هيستيريا واضحة فرأت اثنين منهم يقفان علي أطراف أصابعهما في محاولة يائسة لرؤية المنصة. احرقوهم..ارجموهم.. ظل الجميع يغني بثبات واستمرارية.. صرخت فيهم لكن يبدو أن أحداً لم يسمع صراخها لم يسمعها أحد لم يهتم أحد بأن يسمعها.. أخذت تردد في هيستيريا وانفعال: لماذا.. لماذا.. جذبت يد امرأة واقفة بالقرب منها التفتت المرأة إليها بعينيها فقط وظلت شفتاها ترددان الترنيمة الهادئة احرقوهم ارجموهم وكأنها لا تراها.. هنا لاحظت الفتاة وجه المرأة كان جزءاً لا يتجزأ من الجمع المتجمهر وجه بدون ملامح منفصلة بدون ملامح تميزه عن الآخرين أخذت تهز يد المرأة حتي تلتفت اليها مرة أخري وظلت تصرخ لماذا لماذا؟ سمعت المرأة تهمس دون أن تنظر إليها: لقد جدفوا.. لقد كفروا!! قالت الفتاة في لهفة.. هذا ليس سبباً لحرقهم أو رجمهم.. أتعلمون في أي قرن نعيش؟ رفعت المرأة أصبعها إلي فمها إشارة لإسكات الفتاة ونظرت حولها بسرعة ثم عادت عيناها تنظران لها دون أن ترياها قالت هامسة: ألا ترين؟ إننا لا نحرقهم حقيقة.. إننا لا نرجمهم فعلاً.. هناك أساليب أخري غير الحرق والرجم تمشياً مع الحضارة.. لماذا نوسخ أيدينا بالرماد والأحجار؟.. الكلمات، الكلمات أقوي أثراً من النار والحجارة. ثم تستعرض الكاتبة نماذج من هذا المجتمع الذي يكاد يعيش حياتين لا علاقة لإحداهما بالأخري إذ بينما يدققون في الأوامر والنواهي ويقضون جل النهار في إظهار هذا التدقيق كانت حياتهم العملية علي النقيض يتبادلون الابتسامات والتحيات ويودون لو دمروا بعضهم وتنتهي امسياتهم التي استعرضتها الكاتبة بجملة متكررة في رتابة تحمل رسالة ثقيلة: انتهت الأمسية الرائعة الكل يسلم علي الكل.. الكل يبتسم للكل الكل صحته عال العال الحياة رائعة.. الأولاد أشقياء.. الرب.. كم هو عظيم.. وبهم احترقت المدينة.