في الخامس والعشرين من نوفمبر 2009 خرج بنيامين نتنياهو في ختام اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر معلناً إن حكومته قررت "كبح الاستيطان" في الضفة الغربية لفترة مؤقتة حددها بعشرة أشهر بهدف استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وفي حقيقة الأمر فإنه يمكن قراءة "مبادرة" زعيم الليكود من زوايا عديدة نحاول إجمالها في النقاط التالية: 1- علي صعيد العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية: مثل هذا الإعلان الأحادي الجانب، حلاً وسطاً بين رفض الحكومة الإسرائيلية تجميد الاستيطان من جانب، ومطالبة الرئيس باراك أوباما، علي الملأ في خطابه الشهير بجامعة القاهرة في يونيو الماضي، بالإيقاف التام لعمليات الاستيطان في كافة الأراضي المحتلة بما في ذلك النمو الطبيعي، إعمالاً لما نصت عليه خطة خارطة الطريق من جانب خر. 2- وإزاء التوتر الذي بدأت ملامحه في الظهور بين إسرائيل والولايات المتحدة مع فشل المبعوث الأمريكي للسلام في المنطقة، السيناتور جورج ميتشل، بالرغم من تعدد جولاته ولقاءاته مع الأطراف المعنية في انتزاع الموافقة الإسرائيلية علي وقف الاستيطان، وما تبعه من انتقاد لاذع من قبل رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية للموقف الأمريكي المساند لإسرائيل، مما زاد من حرج إدارة الرئيس أوباما، قدر رئيس الحكومة الإسرائيلية ضرورة اتخاذ خطوة، قد لا تكلفه الكثير، وتسمح بجسر الهوة بين البلدين حول هذا الملف. وفي هذا السياق، يلزم النظر إلي "مبادرة" نتنياهو علي أنها نتاج تنسيق مسبق مع الإدارة الأمريكية، التي حرصت وزيرة خارجيتها، خلال زيارتها للمنطقة في مطلع نوفمبر الماضي، علي التمهيد والترويج لها، من خلال وصف توجهات رئيس الوزراء الإسرائيلي لكبح الاستيطان بأنها خطوة "غير مسبوقة"، وفي ضوء ذلك يمكن فهم الموقف الأمريكي المرحب بالمبادرة والتي وصفتها هيلاري كلينتون بأنها تساعد في الدفع قدما بالجهود الرامية إلي حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. 3- علي المستوي الدولي: جاء هذا الموقف كآلية للتعامل مع حالة العزلة التي بدأت تشعر بها إسرائيل علي الساحة الدولية والتي كان من أبرز أسبابها استمرارها في أنشطتها الاستيطانية، الأمر الذي كان محل انتقادات حادة من كبري العواصم في العالم، بما في ذلك أطراف تصنفها إسرائيل في دائرة الدول الصديقة. وبعبارة أخري، فإنه بإعلانها تجميد للاستيطان في الضفة لفترة محدودة، هدفت الحكومة الإسرائيلية إلي تغيير الصورة السلبية التي بدأت تترسخ في الرأي العام العالمي والتي تبرزها علي أنها الطرف المعرقل لعملية السلام، خاصة في ضوء خطاب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في الخامس من نوفمبر والذي تضمن نقدا لاذعا للموقف الإسرائيلي وأعاد تركيز الأضواء علي ملف الاستيطان. 4- فيما يتصل بالسياسة الخارجية الإسرائيلية: يمكن النظر إلي مبادرة نتنياهو علي أنها بمثابة ضربة استباقية تهدف إلي إعاقة أية محاولة ترمي إلي استصدار قرار من مجلس الأمن يدين إسرائيل ويطالب بالوقف التام للاستيطان الذي سبق وصفه في قرارات عديدة بأنة غير شرعي ويخالف قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1948. ونشير هنا علي وجه الخصوص إلي التوجه الليبي لعرض الملف علي مجلس الأمن، الأمر الذي يجعل إسرائيل داخلة في موقف حرج. 5- علي مستوي التعامل مع السلطة الوطنية الفلسطينية: تم تقديم المبادرة علي أنها تعبير عن حسن النوايا من قبل إسرائيل، وليس إذعاناً "لشرط مسبق" وضعته السلطة لاستئناف المفاوضات، ومن جانب آخر، رأت الحكومة الإسرائيلية أن توقيت الإعلان عن هذه المبادرة مهم بالنسبة للسلطة في وقت تسارع فيه إيقاع المفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس حول إبرام صفقة تبادل للأسري تسمح باستعادة إسرائيل للجندي الإسرائيلي الأسير منذ قرابة ثلاثة أعوام. ففي الوقت الذي تسود فيه التوقعات بأن إتمام تبادل الأسري سيتم النظر إليه علي أنه نصر لحركة حماس يمكن استثماره في الترويج لبرنامج المقاومة، كان من الطبيعي أن تعمل إسرائيل علي تقوية موقف السلطة الوطنية من خلال إبداء درجة من درجات المرونة في التعامل مع مواقفها، مما يفتح الباب مجدداً أمام الرئيس محمود عباس بالعدول عن قراره بعدم الترشيح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وفضلاً عن ذلك، جاء الموقف الإسرائيلي كجزء من إستراتيجية متكاملة تهدف إلي تقويض مسعي السلطة للتوجه إلي مجلس الأمن الدولي للحصول علي مساندته لإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من يونيو 1967 بما في ذلك القدسالشرقية. ووفقا للتحليلات الإسرائيلية فإن هذا الموقف من قبل السلطة جاء من منطلق تجمد عملية السلام، وأن مجرد الإعلان عن مبادرة، حتي وإن كانت محدودة، يمكن أن تساعد في تقوية مواقف الدول الكبري التي تؤيد قيام الدولة الفلسطينية، وإن كانت تطرح المفاوضات كسبيل وحيد للوصول إلي تحقيقها. ووفقاً لهذا المنطق، تم النظر إلي الإعلان عن تجميد أعمال البناء في مستوطنات الضفة الغربية علي أنه يوفر مدخلا لممارسة الضغوط علي السلطة للعودة إلي طاولة المفاوضات "بدون شروط مسبقة". 6- فيما يخص الجبهة الإسرائيلية الداخلية، حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي علي تهدئه المستوطنين وتقديم ضمانات لهم، حيث أوضح في مؤتمره الصحفي أن القرار يتعلق ب "كبح البناء" في الضفة الغربية وليس تجميده؛ وأنه يستثني بناء الكنس والحضانات والمدارس، ولا ينطبق علي القدسالشرقية علي الإطلاق، وأن أنشطة الاستيطان ستعود إلي وضعها السابق بعد انتهاء المدة المحددة، كذلك أوضح زعيم الليكود لوزراء حزبه المعارضين لهذه الخطوة، أن قراره "تأجيل" الاستيطان لا يعني "إخلاء المستوطنات"، كما حدث في قطاع غزة. ويلاحظ في هذا الشأن أن كل التصريحات والضمانات المقدمة لم تكف لتهدئه المستوطنين الذين رأوا في القرار رضوخاً "للضغط الأمريكي"، متهمين رئيس الوزراء بالإذعان له، وقد دفع كل هذا إلي بدء الحكومة الإسرائيلية في خرق القواعد التي وضعتها للتجميد، وصدقت في مطلع ديسمبر الحالي، علي بناء 84 منزلاً جديداً في الضفة الغربية. ومن خلال استعراض الأبعاد المختلفة للموقف المعلن من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما يخص ملف الاستيطان، يمكن القول أن مبادرته كانت ضرورية بل ومطلوبة لتحقيق العديد من المصالح الإسرائيلية بأقل التكاليف، وفضلا عن ذلك فإن ردود الفعل الداخلية المعارضة لها، مكنت بنيامين نتنياهو من إعادة التذكير بأن حكومته ليست فقط غير موافقة ولكن أيضا غير قادرة علي إخلاء مستوطني الضفة الغربية الذين تجاوز عددهم النصف مليون بما في ذلك أولئك المقيمون في القدس الكبري، ومن شأن ذلك أن يقود الجميع، وفقا لقادة إسرائيل، إلي معادلة مفادها ضرورة القبول بمفهوم "السلام الإسرائيلي" كخيار وحيد، وإن كان يمكن تجميله من خلال مفاوضات يكون لإسرائيل فيها حق النقض!