إن مصر تعيش حالة من الفوضي الفكرية المرتبطة بالدين، ففريق قاصر في فهمه ينكر الأحاديث الصحيحة بزعم وهمي أو خيال شخصي، وفريق يحمل النصوص الشرعية علي غير مرادها، وأهل الحق دائمًا بين هؤلاء وهؤلاء يثبتون ما صح عن الرسول - صلي الله عليه وسلم - وإن لم تستوعبه العقول ويردون ذلك إلي مفاهيم الصدر الأول فهم أهل التقي والعلم والحكمة والعقل وأهل الرحمة وأهل الوسطية ولذا زكاهم الوحي في القرآن وفي السنة، إن الفريق الأول حينما أنكر بعض ما صح عن النبي - صلي الله عليه وسلم - يزعم أن صنيعه هذا لخدمة الإسلام وأهله، والفريق الثاني يزعم نفس الزعم، وردّي إنما علي الفريق الثاني أما الفريق الأول فله ردُّ في مجال آخر، والشيخ القرضاوي أحد أفراد الفريق الثاني كما وضحت ذلك في المقال السابق وفي هذا المقال أُكمل ما بدأته من تعليقات حول آخر ما كتب القرضاوي في كتابه فقه الجهاد حيث عنون في كتابه المذكور ص 170 ج1 وما بعدها: ميدان الجهاد في داخل المجتمع فيذكر ميدان مقاومة الظلم والظالمين والأخذ علي أيديهم وعدم الركون إليهم... ويقول: ولهذا يدين القرآن جنود الطغاة كما يدين الطغاة أنفسهم كما في قوله سبحانه: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)... فأوجب الرسول - صلي الله عليه وسلم - مجاهدة الظلمة والطغاة علي كل مسلم بما يقدر عليه من اليد أو اللسان أو القلب... ولقد اهتم الإسلام بهذا الجهاد وحث عليه وجاء في بعض الأحاديث اعتباره أفضل الجهاد كما روي طارق بن شهاب البجلي - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلي الله عليه وسلم - وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر. إن الشيخ يستدل ببعض النصوص إما في غير موضعها أو في موضعها بدون شرح وتوضيح يجعل القارئ يذهب بها حيث شاء فكره، فاستدلاله بآية فرعون وهامان استدلال لا ينطبق علي مجتمعاتنا الداخلية كما أنها اية في أكفر الناس عبر الزمان ألا وهو فرعون فالآية في غير موضعها حيث إن الكلام عن الجهاد في الداخل أي داخل المجتمع المسلم، ثم يستدل بالحديث ولا يشرحه ولا يقيده بروايات أخري بيّنت كيف تكون النصيحة للسلطان؟ حيث جاء عن النبي - صلي الله عليه وسلم - من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك وإلا كان أدي الذي عليه (رواه أحمد وابن أبي عاصم والحاكم والبيهقي وصححه الألباني)، فالحديثان أي الحديث الذي ساقه القرضاوي والحديث الذي ذكرته يبيّنان أن كلمة الحق والنصيحة تكون عند السلطان بين يديه وليس خلف ظهره في المنتديات أو المؤتمرات أو من فوق المنابر، فكان علي الشيخ أن يوضح ذلك ولكن كيف؟ والرجل ينصح للسلطان عن بعد ويثير الناس ضده من علي المنابر وفي المحاضرات فليته يأتي إلي السلطان ويقول بين يديه كلمة الحق بدلاً من منهاجه الثوري الذي يثير الناس ضد حكامهم فتحدث الفتن، ففقه الحديثين في واد وفقه الشيخ في واد آخر. وفي صفحة 187 وما بعدها ينفث القرضاوي سمومه فَيُعَنْونِ قائلاً (ردّة السلطان)... فيقول: وهنا يتعقد الموقف فمن الذي يقيم الحد - حد الردة - علي هؤلاء؟ بل من الذي يفتي بكفرهم أولاً وهو كفر بواح كما سماه الحديث الصحيح؟ ومن الذي يحكم بردتهم، وأجهزة الإفتاء الرسمي والقضاء الرسمي في أيديهم؟ ليس هناك إلا (الرأي العام) المسلم والضمير الإسلامي العام الذي يقوده الأحرار من العلماء والدعاة وأهل الفكر والذي لا يلبث - إذا سُدت أمامه الأبواب وقُطعت دونه الأسباب - أن يتحول إلي بركان ينفجر في وجوه الطغاة المرتدين. ويصعب علي القرضاوي أن يستمر في البحث العلمي بعيدًا عن الأسلوب الخطابي الحماسي والحنجرة العالية التي تستدرج البسطاء وتثيرهم فتقودهم إلي الطرق المظلمة والفتن الهالكة، إن القرضاوي قال بما لم يقله أحد من الفقهاء عبر التاريخ إلا فقهاء الخوارج الذين يكفرون حكامهم ويحشدون الناس للخروج المسلح، فالقرضاوي بكلام عام حول الكفر المباح جعله مباحًا للعوام الذين يعبر عنهم بالرأي العام، فهل الرأي العام مؤهل لإصدار أخطر الفتاوي والتي يترتب عليها رفع السلاح وإراقة الدماء، فيحكم أي الرأي العام بردة الحاكم ثم يثور عليه لإسقاطه فهل هذا من فقه الجهاد أو من فقه الخوارج؟! إن الإمام أحمد وهو إمام عصره إمام أهل السنَّة والجماعة والذي امتُحنت السنَّة في شخصه يسمع ويري ويناقش ويرد مقولة الكفر التي اعتقدها السلطان وامتحن الناس في ذلك وتسلط علماء البدعة علي علماء السنَّة فأذاقوهم العذاب ومع ذلك رفض الإمام أحمد الخروج علي السلطان أو إثارة الناس ضده بل كان يخاطبه بلقب أمير المؤمنين رغم أن الإمام أحمد وأهل السنَّة يكفرون القائلين بخلق القرآن، وما امتناع الإمام أحمد عن التكفير العيني للسلطان وعدم الخروج المسلح أو الخروج بالكلام إلا لموانع منها الجهل الذي كان عليه السلطان في القضية المطروحة أو التأويل الذي سوغه له علماء السوء، فهل فقه القرضاوي ما فقهه الإمام أحمد؟ إن أئمة أهل السنَّة عبر قرون تسلط فيه حكّام ظلمة ومع ذلك لم ينزعوا يدًا من طاعتهم ولم يثبت تاريخيًا أن إمامًا من أئمة أهل السنَّة عاصر حاكمًا ظالمًا ظهر منه ما ظهر فكفّره بعينه، لأنه من المعلوم شرعًا أن التكفير العيني يلزمه شروط وانتفاء موانع، ومن هذه الشروط إقامة الحجة الرسالية علي قائل الكفر أو فاعله، فهل من حكامنا المعاصرين من قال كفرًا بواحًا أو فعله وأقيمت عليه الحجة حتي يحق لنا تكفير عينه؟ إن كلام القرضاوي يفتح أبواب الشر لأن كلامه بلا ضوابط لصدور الفتاوي من العامة لتكفير الولاة، فكما ذكرتُ في العنوان الرجل زئبقي متناقض، تارة ينتقد جماعات العنف والتكفير الذين خرجوا بالسلاح علي حكامهم، وتارة أخري يُعطيهم هذا الحق بعلة أخري غير منضبطة. إذا كان المُنكَر من جانب الحكومة، فمن الذي يزيل هذا المنكر عند القرضاوي؟ وللحديث بقية