خرج كاظم الرجل الستينى إلى الشارع، كان يشعر بالضيق لسبب لا يعرفه، ظن أن انقطاعه عن السجائر هو السبب أو الرطوبة الخانقة، توجه نحو بائع العصير فى آخر الشارع البيروتى المقابل للبحر، انتظر دوره للحصول على كوب من الليموناتة لينعش صدره قليلا، وتصادف مع دور شاب عشرينى مد يده ليأخذ الكباية، وكاظم كعادته لم يسكت، قال له أنا قبلك، لكنه ولسبب ما تراجع عن كلامه عندما رأى الشاب يرتدى ثياب متطوعى الدفاع المدنى، فقال له تفضل، وتسارع الكهل والشاب حول من سيأخذ الليموناتة إلى أن أتى الكوب الثانى فحسم الجدل، فتناول كل منهما كوبه ووقفا قرب الرصيف يرتشفان طعم الحامض وماء الزهر مقرقشين فتات الثلج فى وقت واحد. توجه الشاب إلى كاظم بالحديث: أنا شربل - أنا كاظم - أهلا بك يا عم تشرفنا بعتذر عن الذى حصل - لا يا ابنى ولا يهمك - أنت من أين يا عم؟ - أنا من بلدة جون هل تعرفها؟ - جون؟؟؟ طبعا ... بلدة دير المخلص والمطرب الراحل نصرى شمس الدين - أتحب نصري؟ - ومن لا يحبه؟ أنا حافظ كل أغانيه من زمان والدى كان يحبه ويسمعه دائما… - أنا كاظم شمس الدين ابن أخ الراحل نصرى - جد؟.... رائعة هذه الصدفة، تشرفت جدا جدا… - وأنت من أين ؟ - انا من بلدة قرطبا - أجمل ناس بقرطبا وبلدكتم جميلة جدا تناول الكهل والشاب الليموناضة وتبادلا أرقام الهواتف وافترقا، لم يخطر ببال أحد منهما انهما سيتكلمان مع بعضهما قريبا، ذهب شربل إلى مكان عمله فى مركز الإسعاف حيث يعمل، وعاد كاظم إلى شقته المقابلة لمرفأ بيروت والبحر بعد أن تحسن حاله واعتدل مزاجه، ربما بسبب كباية الليموناتة المثلجة أو بسبب حديثه مع الشاب الرصين صاحب الروح الجميلة. كانت الساعة ظهرا بالظبط، وجد كاظم زوجته تشرب القهوة على الشرفة، فانضم لها وراودته نفسه لإشعال سيجارة بعد فترة من الانقطاع بسبب بعض المشاكل الصحية. الزوجة: كاظم؟؟؟؟ ماذا تعمل؟؟؟ كاظم: معلش كلها سيجارة واحدة ومن نفسى وأضاف بلكنته الجونية «وع بالى وطمنى بالك ما حدن بيموت ناقص عمر...». قضيا ساعة أو أكثر يراقبان هدوء البحر وحركة المرفأ التى لا تهدأ، سفن تدخل وتخرج، ورافعات ترفع البضائع وتنزلها، وأشخاص يظهرون لهم كنقط سوداء بحركة لا تنتهي.. وشاحنات تدخل فارغة وتخرج ممتلئة بالبضائع لتوزعها على المناطق. وصل شربل إلى مركز الإسعاف فى منطقة الإشرافية حيث يعمل، وتوجه إلى الاستراحة ووجد زملاءه قد وصلوا قبله وقرروا النوم قليلا بانتظار التحرك عند أى طارئ، لكن شربل ظل يقظا لم يقدر أن يغمض عينيه. أما كاظم فكان يومه عاديا، ورغم عشقه لبيروت إلا أنه كان يتأفف طيلة الوقت من الرطوبة والجو الحار ملمحا لزوجته بأنه يريد العودة إلى بلدته جون حيث الطقس الجميل والهواء العليل البعيد عن الرطوبة، وقضى وقته بين مناكفة زوجته ومناكفة ابن عمه المهاجر إلى أمريكا على الفيسبوك وهو صديق العمر، وسماع الاغانى إلى أن حل موعد الغداء فأكل وشرب الشاى وتمدد بسريره سارحا بحاله وأحواله. سرح كاظم بحياته التى قضاها مهاجرا إلى إحدى الدول الخليجية التى قضى فيها أكثر من أربعين عاما يعمل بمجال المقاولات، وابتسم حين ورد إلى ذهنه بأنه استطاع الزواج من فتاة أحبها وأعجبته منذ الشباب وابتسم أكثر عندما تذكر بناته الثلاثة اللواتى كبرن فجاة وتخرجن من الجامعات وتزوجن وأنجبن وحولوه إلى جد عجوز، لكنه أحس بالضيق حين تذكر ما قام به شريكه بعدم الاعتراف بحصته من الشركة من مال حين أراد العودة إلى وطنه، لكنه شكر ربه بأنه استطاع تكوين عائلة جميلة وأشاد منزلا جميلا فى بلدته الحبيبة بالإضافة إلى شقته الحالية فى بيروت، ولولا تدبير زوجته وقيامها بجمع جزء من المبالغ التى كان يرسلها كمصروف شهرى لها وللبنات لم يكن سيتمكن من شراء الشقة أو حتى العيش بكرامة بعد سنوات طويلة من الغربة والعمل الشاق خارج الوطن. استيقظ كاظم من النوم بعد الساعة الخامسة بقليل وأخذ يتحايل على زوجته بأن يحصل على سيجارة أخرى مع فنجان القهوة، وبعد ممانعة طويلة رضخت لطلبه مشترطة بأن تكون واحدة فقط لا غير، جلس على الشرفة بانتظار القهوة محدقا بالشمس التى تتهيأ للمغيب، وأتت زوجته بصينية القهوة وقطعة من الحلوى وكوب من الماء، واشترطت عليه أكل الحلوى وشرب المياه قبل السيجارة، فابتسم ونفذ طلبها حبا لها وحبا أيضا بالسيجارة الموعودة، أعطته السيجارة لكنه فضل أن يتركها لوقت المغيب طالما أنه لن يحصل على غيرها، وقرابة الساعة السادسة ومع فنجان القهوة الثانى اشعل السيجارة ونفخ دخانها بتلذذ كبير، وزوجته تنظر إليه وتضحك من تصرفاته، لم يتكلم وابتسم لها ورشف القليل من القهوة إلى أن وقف فجاة. قال لزوجته يوجد حريق بالمرفأ بأحد المعنابر أنظرى إلى الدخان، وقفا ينظران إلى الدخان ولا يعلمان المصيبة التى ستحصل قريبا، وما هى إلا بضع دقائق حتى حصل الانفجار الأول الذى أخافهما جدا أما الانفجار الثانى فدفع ضغطه كاظم وزوجته إلى داخل الشقة بقوة، لم يتحمل جسد كاظم الارتطام القوى بالجدار فغادر إلى الحياة الثانية مباشرة وأصيبت زوجته برضوض وكسور وجروح كثيرة، فقد كان المبنى مواجها للمرفأ ولعله الأكثر تضررا ومن كان بداخله كان أول الراحلين وأول المصابين. فى هذا الوقت توجه شربل وزملاؤه على الفور إلى سيارة الإسعاف للقيام بواجبهم، وبدأ عملهم من الأطراف أى من المبانى المواجهة لمنطقة الانفجار، وصعد إلى إحدى البنايات ليقول له أحد السكان صارخا عن سكان الشقة المواجهة للبحر فى الدور الرابع مؤكدا أن جاره وزوجته لا يزالان فيها، دخل شربل إلى الشقة مع زميله ووجدوا زوجة كاظم وكانت غائبة عن الوعى تماما فانزلاها إلى الطابق الأرضى لتلقى الإسعافات الأولية ونقلها إلى المستشفى، وعادا للبحث عن الشخص الآخر، وكانت الصدمة بالنسبة لشربل، فالشخص الآخر هو كاظم الذى تعرف به منذ ساعات قليلة، حاول إسعافه لكن دون جدوى كان قد فارق الحياة مباشرة، انصدم وتسمر تماما، لم يستطع التحرك من مكانه لولا قام زميله بهزه بقوة. - هل تعرفه؟ - نعم، تعرفت به من ساعات، معقول؟ - قم وساعدنى على نقله من هنا قم. قام الشابان بنقل جثة كاظم إلى أسفل المبنى ونقلاه مع زوجته إلى المستشفى، هى نقلت إلى غرفة العمليات لإجراء الجراحات اللازمة وهو إلى البرادات لحفظ جثته. خرج شربل من المستشفى إلى سيارة الإسعاف للقيام بمهمة أخرى لكنه كان مخدرا من هول الصدمة، تذكر بأنه يعرف شابا من بلدة جون فقام بالاتصال به وأبلغه بوفاة كاظم، عمل طيلة الليل على نقل القتلى والمصابين حتى فجر اليوم التالى إلى أن حان موعد استراحته فذهب إلى المستشفى حيث كان كاظم وزوجته، فوجد مجموعة من شباب بلدة جون ووجد صديقه بينهم لم يتكلما كثيرا، كان الصمت اللغة الوحيدة المعتمدة فى هذه اللحظة، كان العزاء فيما بينهم بنطرات مؤلمة شانهم شان عشرات العائلات التى فقدت فردا منها، قرر الشباب وبعض الأقرباء ترك الجثة إلى اليوم التالى إلى حين الانتهاء من ترتيبات الدفن. وفى اليوم التالى كان شربل قد تدبر امر نقل الجثة باحدى سيارات الإسعاف التابعة للمركز الذى يعمل به، وأصر على المرافقة، إلى أن وصلا إلى بلدة جون حيث كان جميع أهالى البلدة بالانتظار وقام شبان البلدة بتزيينها وتعليق صورة كبيرة لكاظم عند مدخل المدافن، وبعد اتمام المراسم الدينية تمت عملية الدفن وقام شربل بإلقاء أولى حفنات التراب فى القبر مذرفا الدموع على صديق تمتع معه بأقصر فترة من الصداقة .