على الرغم من ازدياد الحديث فى مصر عن العولمة والفنون إلا أنه حديث نظرى لا يرى أنها صانعة الإطار الفكرى وأن العالم الغربى يستخدمها أخطر استخدام لصالح السياسة والاقتصاد هناك تعبير يابانى شهير استبدل الاصلاح السياسى الأشهر العولمة Globalization بمصطلح آخر يتناسب مع حل التناقض الحاد بين ثقافة وتقاليد اليابان الحضارية الآسيوية الشرقية العريقة وبين ارتباطها الحاد بالاقتصاد الغربى وعلاقات الشراكة السياسية الوطيدة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو مصطلح محلية العولمة Glocalization، حيث درج البعض على تسمية اليابان بالحديقة الخلفية لأمريكا، وإن كانت التسمية مزعجة إلا أنها إحدى الصياغات الواقعية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، عالم وجد الكثيرون فيه أعداء الأمس ما من صداقتهم مفر، ولكن اليابانيون بمقدرتهم الهائلة الآسيوية على ضبط النفس والحفاظ على هويتهم القومية المتمثلة فى ديانة الشمس الوضعية ومعابد بوذا الفخمة وشوارع طوكيو القديمة وقصور الامبراطور التاريخية والملابس التقليدية التى هى الزى الرسمى للسهرة الرسمية خاصة لدى السيدات، والفنون التقليدية اليابانية التى تعيش حية منذ آلاف السنين وتقاليد الطعام وآداب الحوار وعلاقة الرجل بالمرأة وهى ثقافة شعبية حية تجدها فى كل معالم الحياة اليومية، رغم الارتباط الوثيق بين اليابان والعالم الغربى الأمريكى الساعى لمشروع العولمة. إن مصطلح «محلية العولمة» الذى ربما يبدو جديداً على الذهنية العامة فى مصر، إنه يعود لأوائل الثمانينيات، حيث ظهر فى الأدبيات السياسية اليابانية كتعبير عن عملية تكييف ما هو عالمى لمختلف الظروف المحلية، وفى مصر الآن والتى ترتبط سياستها الخارجية بتصور يسعى لعلاقات الندية والتعاون القائم على الاحترام المتبادل والمستند لاستقلال الإرادة الوطنية فى عالم معاصر هو قرية واحدة على مستوى الاقتصاد والعلوم والثقافة والفنون. وهى ثوابت ضرورية لا غنى عنها فى التواصل مع العالم الخارجى بعيداً عن توازنات المصالح السياسية وتقلباتها وصراعات رأس المال العالمى وتوحش الشركات متعددة الجنسيات. ولذلك ونحن فى مصر الآن بصدد السعى لرسم استراتيجية ثقافية جديدة علينا تأمل مسألة محلية العولمة والحذر من الإفراط المتصلب فى البحث عن أسئلة الهوية لأن بعث وإحياء الثقافة الشعبية كسلوك يومى فى الطعام وآداب الحوار وملامح الشارع المصرى هو الضرورة لمواجهة العشوائية فى السلوك والملابس والمساكن والفنون، وهى عشوائية قوية لمزجها بعض التقاليد الشعبية وثقافة الصور العولمية المدعومة بتكنولوجيا رخيصة الثمن سهلة الاستخدام فى صورة مشوهة. فعملية إعادة إحياء التقاليد الشعبية والحرص على الهوية المصرية بمختلف مكوناتها يجب أن تضع فى اعتبارها مفهوم محلية العولمة بمعنى إعادة إنتاج الأفكار والصور ومحددات السلوك اليومى مثل الملابس والأطعمة القادمة من العالم الخارجى فى قالب محلى لأن الحفاظ على الهوية ينجح بمقدار حيويتها الثقافية وقدرتها على إعادة إنتاج القيم والسلوكيات الحديثة مع رفض ما يتعارض مع ثوابتنا الدينية والوطنية. ولأن الثقافة العشوائية التى تختار ما يريحها ويجعلها تستمتع بالحياة رغم الفقر فتمزج بعضاً مما هو شعبى ببعض مما هو عولمى بشكل حر بسيط لأنه تعبير عن الحرية الفردية والمجتمعية لأشخاص بالملايين خارج قيود الطبقة المتوسطة، ولذلك ولحريتهم فى الحركة ولأنهم ليس لديهم ما يسخرونه على مستوى المظهر الاجتماعي، فإن ثقافتهم العشوائية الجديدة فرضت ذوقها الحر المستجيب لحل مشكلات الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ولأنها إنسانية الطابع وبلا مرجعية فكرية فهى شديدة الجدة والحيوية بدرجة سمحت بفرض ذوقها وألفاظها وطريقة تعاملها اليومى على أداء الشرائح الاجتماعية العليا، بل وأصبحت طازجة سهلة قادرة على إنتاج نوع من الفنون البسيطة سيطر على الذوق العام، ولذلك فحيوية الإنتاج الثقافى الذى نستهدفه ونسعى لحدوثه لابد أن يتأمل التركيب العميق لهذه الثقافة العشوائية لعلاجها من داخلها بتطوير المذاق الشعبى الممزوج بالصور العالمية الحرة، مثل التحرر الشخصي.. الملابس الحديثة، فما يرتديه شباب المنطقة العشوائية من (جينز وكاب) هو ما يرتديه شباب الشوارع الخلفية تقريباً فى نيويورك، وما يرقصون ويغنون عليه من إيقاع صاخب متشابه إلى حد بعيد، الجديد إذن أن العشوائيين الجدد تفاعلوا مع التكنولوجيا الحديثة ومزجوا ما هو قادم من الغرب بحس شعبى فطرى حر بسيط وهى عملية التفاعل الثقافى اللا واعية والتى علينا تأملها والتعلم منها ونحن نعيد رسم السياسة الثقافية المصرية فى إنتاج الفنون كى نكون معاصرين ومتماسين مع قيم الثقافة الشعبية المصرية، وقادرين على صناعة التواصل والفهم والتأثير واستعادة القيم الفنية الجميلة معاً. إن نظرية الثقافة إذن هى صاحبة التأثير فى تجربة اليابان فى استيعاب العولمة وإعادة إنتاجها بشكل محلى يساهم فى ضبط إيقاع الاقتصاد والسياسة بالضرورة لأن ثقافة الشعوب هى التى تحدد اختياراتها العملية فى الفنون والشراء والإنتاج والعمل وارتداء الملابس وغيرها من التفاصيل التي تصنع الصيغة العملية للهوية الوطنية. ولذلك فعلينا إدراك أن نظرية الثقافة فى عالم معاصر يتم صنعها فى مراكز متنوعة فى العالم، بما يصنع ثقافات مادية وإعلامية ومهنية ومتنوعة، وعلى الرغم من ازدياد الحديث فى مصر عن العولمة والفنون، إلا أنه حديث نظرى لا يرى أن الفنون هى صانعة الإطار الفكرى وأن العالم الغربى يستخدمها أخطر استخدام لصالح السياسة والاقتصاد، ولذلك فتأمل المكون العولمى فى الثقافة والفنون العشوائية أمر ضرورى وغائب فى نقد الفنون أو عند الحديث عن السياسة الثقافية الجديدة، إن المثقف المصرى عليه أن يقرأ الشارع المصرى ويتأمل إنتاجه الإبداعى وألا يعيد طرح رؤى الكتب القديمة ويغرق فى ترديد مترجمات السياسات الثقافية فى بلدان أخري، وألا يردد توصيات المؤتمرات الثقافية المتكررة، وأن يستند فى عمله لقاعدة بيانات اجتماعية واقتصادية سليمة تتأمل حيوية الواقع بعيداً عن الغرف المغلقة، ولذلك يظل مصطلح محلية العولمة القديم فى نظرية الثقافة هو مفتاح حيوى لإعادة تأكيد الهوية المصرية ولرسم سياسة ثقافية جديدة تصلح للممارسة والتطبيق وتطور نفسها بنفسها وفقاً لمحددات التجربة العملية، وتؤمن حقاً بأن نظرية الثقافة هى الإطار المرجعى الحاكم لأى تفكير سياسى واقتصادى وما أحوجنا لإدراك ذلك من أجل مصر المستقبل، وبتأمل تراكم المأساة فى مؤسسات الثقافة والإعلام الحكومية التى تحتاج لمعجزات حتى يتم اصلاحها، ولأن أى سياسة ثقافية قادرة وجادة ستواجهها عقبات التنفيذ الذى يحتاج المال وللرجال القادرين على تجاوز محنة التناحر والتنافس غير الشريف فى الأجهزة الإعلامية والثقافية الحكومية الغارقة فى صراعاتها اليومية الضيقة. ولذلك تحتاج مصر لتفكير اقتصادى جديد مثل ما فعله طلعت باشا حرب عندما أنشأ استوديو مصر ودعم الفرق المسرحية الجادة من خلال بنك مصر، فهل يمكن لكبار الفنانين والمثقفين فى مصر الدعوة لإنشاء كيان كبير اقتصادى سهل الحركة مخلص النية يقدر على تغيير الحالة الثقافية والفنية المستعصية على الحل فى مصر، أتذكر أم كلثوم لقد كانت قادرة وحدها على قيادة حملة المجهود الحربى لدعم الجيش المصرى قبل انتصار 1973، فهل يوجد فى مصر قامة مثلها قادرة على الدعوة لمجهود اجتماعى يقوم على الاكتتاب لإنشاء بنك الفكر والفن فى مصر. إن الإستجابة المدهشة وغير المسبوقة فى أى تجربة مجتمعية سعت للاكتتاب الشعبى فى مسألة حفر قناة السويس الجديدة، تدفعنا للحلم بتكرار التجربة مع بنك الفكر والفن، لعودة مصر لريادتها الثقافية والفنية ولإعادة إنتاج الأخلاق والفكر للمواطن المصرى وهما الضرورة للدخول فى مصر المستقبل.