بالنسبة إلي مصر ليست ليبيا مثل تونس. ثورة تونس هي.. في نهاية الأمر.. بعيدة جغرافيا حتي لو أعطت لقطاع من الشباب المصري بعضاً من الإلهام السياسي. لكن ليبيا جار لصيق.. ومتعانق.. وبين بعض قبائلنا وقبائلها ترابط عائلي.. والحدود ظلت قرونا مناطق للتفاعل السكاني والتجاري والثقافي. كما أن العلاقة بين الدولتين.. شدا وجذبا.. اتصالا ونفورا.. اقترابا أو ابتعادا.. بقيت عنصرا حيويا في المصالح المصرية.. سلبا أو إيجابا. إن ما يجري في ليبيا وفقا لمفاهيم (الجغرافيا السياسية) حدث لا بد أن يشغل مصر.. دولة وشعبا ونخبة. علي قدر بُعد المسافة فإن صوت آهات الضحايا في طرابلس لا بد أن يكون له دوي في القاهرة.. والمجريات التي قادت إلي تمرد بني غازي علي نظام العقيد القذافي لا يمكن أن تكون غير مؤثرة في الإسكندرية.. ورائحة الدم التي تكشف عن مذابح قاسية في الشوارع الليبية لا بد أن تكون محسوسة في الأنوف المصرية.. ليس فقط لأنها قريبة.. ولكن أيضًا.. وهذا هو الأهم.. لأن بينها دماء لضحايا مصريين.. قتلوا جورا وظلما وبتحريض علني من سيف الإسلام القذافي في خطابه الشهير ليلة الأحد- الاثنين. إن بعضا من شراييننا تقطع هناك.. وعددا من أرواحنا تزهق أمام أعيننا. لا أحد كان يمكنه أن يتوقع أن تفلت ليبيا من رياح التغيير.. حتي لو لم تكن قد أدرجت علي الأجندات الغربية المعنية بالتحولات في المنطقة.. كيف يمكن لها، بهذه الوضعية الهشة، أن تنجو، بينما جرت في شرقها وغر بها ثورتان في غضون شهر واحد. جار الثورة لا بد أن يتحصل نصيبه منها.. من جاور الحداد ذاق ناره.. العراق تحصل من ثورة إيران في الثمانينيات حربا.. والخليج جني منها تهديدا وتثويرا.. ودول أوروبا الشرقية سرت فيها عدوي التحولات بمجرد أن تفجر الوضع في الاتحاد السوفيتي الذي كان. لكن ليبيا، للمفارقة، أثبتت اختلافها عما جري في مصر وتونس.. اختلاف نابع من طبيعة التطور الاجتماعي الذي طرأ علي البلدان الثلاثة.. ومن طبيعة موقف الجيوش في كل منها. ثورة تونس قامت بها الطبقة المتوسطة.. التي جاعت إلي الحرية رغم شبعها التعليمي. ثورة مصر أطلقها جيل شاب متعلم.. عبر عن تطلعه إلي تجسيد الهوية المصرية ورغبته في أن تنال مصر مكانتها المستحقة. ثورة ليبيا تعبر عن حالة إحساس بظلم اجتماعي شامل.. لا تعليم ولا حرية ولا شبع اقتصادي.. ورفض حقيقي لكل قواعد التوازن التي بني عليها نظام معمر القذافي بقاءه طيلة أربعين سنة.. بقاءه لا بقاء بلده. تعريفا تكون الدولة: شعبا وأرضا وسلطة.. لكن القذافي جعل من التعريف في ليبيا: حاكما وثروة وعبيدا.. حيث لا دولة. ثورة تونس حظيت برفض الجيش أن يقبل تلبية أوامر بن علي بمواجهة الشعب من أجله. ثورة مصر تمتعت من اللحظة الأولي بتاريخية وعي القوات المسلحة.. وتحالفها مع الشعب.. وإصرارها علي ألا تؤدي التطورات إلا إلي بقاء الدولة.. وإن اقتضي الأمر سقوط النظام.. ومن ثم جعلت من (شرعية الثورة) طاقة تضيف إلي (شرعية الدولة). ثورة ليبيا كشفت عن هشاشة البنية الأمنية والعسكرية والسياسية.. وانفلات الترابط القبلي.. وتفتت الأجنحة.. وعدم وجود جيش حقيقي.. حتي لو كانت هناك مجموعات من الناس ترتدي زيا عسكريا ولديها أسلحة وطائرات ودبابات.. هذه ميليشيات منظمة أثبتت المتغيرات أنها تؤمن ببعض ولاء لمن وظفها.. وليس لديها ولاء للدولة.. تتنازعها الأهواء.. ومن ثم ليس غريبا أن تعتمر الساحة في ليبيا بالمرتزقة الأفارقة. في مصر تخلي الرئيس مبارك عن موقعه في اللحظة المناسبة التي أدرك أن عليه فيها أن يتخذ قرارا تاريخيا.. دون أن يفر علي طريقة بن علي. وفي مصر جري استيعاب مهول من (المؤسسة- القلب) ليس فقط لمطالب الشعب وإنما أيضًا لمتطلبات الأمن القومي.. ووجوبيات حفظ الدولة. وفي مصر راهن الشعب علي المؤسسة التي وثق وآمن بأنها صانعة التغيير الأساسية في تاريخ مصر الحديث.. خصوصا منذ عام 1952 . في ليبيا لا توجد مؤسسة.. توجد قوات غير محترفة. لا توجد دولة بالمعني المفهوم وإنما سلطة بالمعني المسيطر. لا توجد كيانات حقيقية.. وإنما فوضي وعشوائية.. ظن العقيد القذافي أن بعثرتها بتلك الطريقة سوف تؤدي إلي قدرته علي إبقائها غير قادرة علي أن تتلاصق بحيث يمكن ألا تجد أبدا فرصة للاتحاد ضده.. إلي أن اجتمعت الرغبة الشعبية في التحول.. وفرضت المتغيرات نفسها عليه في لحظة لا يمكنه فيها أن يمارس أياً من أساليبه القديمة. ولأنه مختلف من اللحظة الأولي.. ولأنه خارج المنطق.. فإن إدارته للموقف المتأجج قد دفعته إلي أساليب لم يلجأ إليها بنفس الأسلوب حتي أكثر الباطشين حماقة في التاريخ.. قرر أن يقتل شعبه من أجل أن يبقي.. حاكم يذبح مواطنيه جماعيا.. ويستخدم قوة بلده المفترضة ضده.. وبحيث لا يمكن حتي أن تطبق عليه نموذج (شمشون).. الذي رفع شعار علي وعلي أعدائي.. فهو يحرق الجميع.. يحرق جيشه وسلطته وشعبه وجيرانه وبتروله وضيوف بلده. إن الأحداث في ليبيا تمضي بوتيرة أسرع جدا من معدلاتها في دول أخري.. ليس لأن طاقة الغضب أكبر وأثقل فقط.. لكن لأن عمق الزمن الديكتاتوري (أربعين سنة) خلف موروثات لا يمكن كتمانها مرة أخري.. ولأن طريقة تعامل القذافي مع الموقف تتخطي المنطق.. ليس لديه القدرة علي أن يستوعب حتي أن يمضي إلي نهايته بالتقسيط.. يريد أن يقطف حنظل الختام دون أن يحتمل إطالة المدة.. لا يطيق صبرا.. يقامر بالشعب كما اعتاد أن يفعل طيلة حكمه.. كل رصيد المغامرات والحماقات يدفعه إلي حتفه. رغبته الشخصية في أن يثبت لذاته أنه ليس مبارك وليس بن علي تمضي به إلي هاوية الغرور الأخير.. أحمق حتي وهو يحتضر.. غشيم تماما حتي وهو ينتحر. تركت ثورة تونس في البلد خلفها احتمالات الأمل رغم المعاناة. وحصدت ثورة مصر أعرض ما في الآمال والأحلام من فرص.. رغم المصاعب الكثيرة. لكن ثورة ليبيا لن تمر بنفس المراحل.. سوف يغادرها القذافي بطريقة مأساوية.. لن تكون هروبا أو تنازلا.. وإنما أقرب إلي سيناريو الانتحار.. وحرق الجميع.. سوف يمضي القذافي ويخلف وراءه ألوفا من الجثث ومئات من العائلات الثكالي والقبائل المتناحرة وشعباً لا يمكنه أن يلملم نفسه ولو بعد سنوات. سوف يترك خرابة متضاعفة المآسي. وتلك سوف تكون بعض مشكلاتنا القريبة وتحدياتنا الاضطرارية.. في مصر. [email protected] www.abkamal.net