الحكم.. أو حمام الدم الجملة الأولي: ما يجري في ليبيا له تأثيراته القريبة والمتوسطة والبعيدة علي مصر. بغض النظر عن الأثر الذي أحدثته أو سوف تحدثه الخطبة الطويلة جداً التي ألقي بها سيف الإسلام القذافي ليلة الأحد الاثنين، بشأن مجريات الاحتجاجات في ليبيا، فإنه يمكن القول إن تلك هي واحدة من أهم المواقف التي تصدر في بلد عربي، لحظة تطور أزمة مندلعة في اتجاهها إلي التصعيد، ويمكن النظر إلي أهميتها من أكثر من زاوية.. علما بأنه ليس كل أمر يوصف بأنه «مهم» يجب أن يكون إيجابياً: • إن سيف الإسلام قد أدلي بها في اللحظة التي ترددت فيها أنباء قوية، وإن كانت غير مؤكدة، بشأن خروج العقيد معمر القذافي من ليبيا، ما يعني ضمنياً أنها كانت رسالة نفي غير مباشرة.. وتأكيداً من جانب الابن علي وجود أبيه وصموده. • إن طريقة إدلاء سيف الإسلام بالخطاب، ومضمونه، والصفقات المتنوعة المعروضة فيه، ما بين الترغيب والترهيب، إنما تعني أنه قدم نفسه بديلاً تالياً لأبيه.. بغض النظر عن كون الأب بقي في الحكم.. عملياً أو شرفياً.. أو لن يبقي. في نهاية الأمر بدا من الممكن ان تفهم جملة لها رأس ورجلان.. مقارنة بما يمكن ان تتحصله من أي خطاب للعقيد القذافي. • إن سيف الإسلام لم يكن يتعامل مع احتجاجات ليبيا، من حيث التعريف السياسي، علي أنها مطالب ثورة، وإنما تعامل معها بصراحة ومن اللحظة الأولي علي أنها تحد يواجه الحكم.. ومن ثم فإنه مضي إلي أبعد نقطة من التوقيت الأول للأزمة.. ذهب فوراً إلي نهاية الطريق.. مؤكداً أنه سيكون هناك قتال حتي آخر طلقة رصاص وآخر رجل، ولم يلجأ إلي الأساليب المعتادة في التعامل مع مثل هذه الأزمات.. من مرحلة إلي أخري.. بل إنه حرق كل المراحل.. وصولاً إلي المرحلة الأخيرة. • إن سيف الإسلام في هذا السياق لم يشغل باله كثيراً بمدي أحقيته الشرعية في أن يقول ما قال.. ولا خطر له هذا علي بال أصلاً حتي لو كان بعض المعارضين الليبيين قد قالوا ما هي شرعيته لكي يلقي الخطاب؟.. هذه مسائل شكلانية يتجاوزها الواقع الليبي.. خصوصاً إذا ما عدنا إلي النقطة الثانية التي أشرت فيها إلي أن الابن قدم نفسه بديلاً للأب في تسوية علنية، ناهيك عن تعامله مع الثقافة القبلية الليبية التي يمكن ألا تقف عند هذه النقطة سياسياً من حيث إن الابن صوت أبيه. تشخيص سيف الإسلام للموقف هو نقطة ضعفه وهو نقطة قوته، لو صدق فإنه قد يحصد نتيجة تحقق له أهدافه.. ولو لم يكن فإنه لن يحصد شيئاً علي الإطلاق.. ذلك أنه اعتبر ما يجري في ليبيا محاولة تقسيم وتفتيت وسعي لإعلان ولايات إسلامية.. في البيضاء وغيرها، ولو كان هذا صحيحاً فإنه ربماخاطب مصالح بعينها في ليبيا.. وربما خاطب مصالح غربية «أوروبية وأمريكية».. ولو لم يكن كذلك.. كما تحاول المعارضة أن تقول.. فإنه يفقد أهم أسس بناء خطابه.. تطورات ما بعد خطابه تشير إلي أن أحداً لم يلق له بالا. مساحة الترغيب في سيناريو الصفقات التي طرحها سيف الإسلام كانت قليلة إلي حد بعيد، في مقابل مساحة ترهيب عريضة جداً.. توزعت في اتجاه عناصر مختلفة.. بخلاف مسعاه إلي إلهاب أنواع من التحريض.. تؤدي إلي إشعال فتائل حروب مختلفة.. في حين أنه كان يحذر من حرب أهلية طويلة المدي. الترغيب تبلور في عدة نقاط.. أولاها عرض مشروعات قوانين الإصلاح: الصحافة المجتمع المدني العقوبات لا مركزية الحكم.. وصياغة دستور جديد، ذلك أن ليبيا دولة ليس لها دستور في ضوء أفكار الكتاب الأخضر التي يتبناها العقيد القذافي منذ زمن بعيد.. وقد كتبه له مفكر مصري ناصري راحل. وفي الترهيب كانت هناك تحذيرات مختلفة: • إلي القوي الغربية والمحيط الإقليمي: سوف تكون ليبيا مرتعاً لتشرذمات الإمارات الإسلامية. • إلي القوي الغربية والقبائل: سوف يتم تهديد منابع البترول وستخرج الشركات ولن يوزع عائده علي المستفيدين. • إلي القبائل: سوف يؤدي احتمال الانقسام إلي انقطاع الوصال بين العائلات في الشرق والغرب. • إلي القبائل وكل السكان: لن يكون متاحاً الوصول إلي الخدمات العادية بدءاً من عدم إمكانية الحصول علي كسرة الخبز التي سوف يصل سعرها إلي ما يوازي وزنها ذهبا علي حد قول صاحب الخطاب. • إلي جميع الليبيين: سوف تكون هناك حرب أهلية، وسوف يخوض القذافي وأنصاره.. قبائل وجيش ولجان ثورية.. هذه الحرب حتي آخر رصاصة. ومن المثير أنه في الوقت الذي كانت فيه محطات التلفزة تتحدث عن وجود مرتزقة إفريقيين يحاربون الاحتجاجات لصالح العقيد القذافي.. فإن سيف الإسلام اتجه إلي التحريض المباشر علي الجاليتين المصرية والتونسية باعتبارهما علي حد قوله مشاركتين في الاضطرابات، ومعهما سلاح، ما يعني أنه يحاول دفع القوي الليبية إلي مواجهة الغرباء بدلاً من أن يواجهوا الحكومة التي يحتجون عليها. هذا خطاب مهم جداً، حتي لو لم أتفق مع منهجه وطريقته ومضمونه وحتي لو جاوز الحقائق، وهو نموذج مختلف لابد أن يدرس في إدارة هذا النوع من الأزمات، وسوف يكتسب أهمية إضافية علي حسب النتائج التي سوف يؤدي إليها.. إن كان سوف يؤدي إلي نتائج، ووفقاً للمواقف التي سوف يتخذها سيف الإسلام ومن معه في الأيام المقبلة.. علماً بأن الأحداث في ليبيا تتطور بوتيرة أسرع من معدلات غيرها. لكن أهم ما في الخطاب، إن لم يكن كله مناورة لكسب بعض الوقت من أجل لملمة الملفات الأخيرة، يكمن في طريقة تلقي القوي الغربية للمضمون الذي بعث به بشأن منابع البترول.. وما إذا كانت قادرة علي استيعاب احتمالات وقف الإنتاج من الحقول الليبية لفترة قد تطول من الوقت.. بينما هي بالكاد كانت قد عادت إلي العمل باستثمارات غربية عريضة خلال الأعوام الأربعة الماضية، هذا عامل جوهري في تحديد مسار احتجاجات ليبيا.. بغض النظر عن قدر الغضب الذي سوف يؤدي إلي تصاعد تلك الاحتجاجات داخلياً. في هذا السياق يتراجع عامل توازنات وتحالفات القبائل الليبية، مع النظام الذي يعتليه العقيد القذافي، ذلك أن القبائل لديها تطورات جيلية، وتغييرات في الأهداف، وكما أنها يمكن أن توازن بين مصالحها مع الواقع الحالي، فإنها أيضاً يمكن أن توازن مع مصالحها في الواقع التالي، هذا إذا كانت تريد بقاء ليبيا موحدة.. فقد تكون القبائل تسعي بدورها إلي التقسيم. في كل الأحوال لابد أن نتابع الموقف هناك لأنه يتعلق بمصالح استراتيجية مصرية.. حتي لو كنا منشغلين بوقائع الداخل المصري. [email protected] www.abkamal.net