الثورات تحتاج للحماس والشجاعة والهتاف وبعض التضحيات. وهي أمور تحتاج إلي الشباب قبل غيرهم. وقد أجمع الكل بمن فيهم بعض المسئولين علي أنهم شباب طاهر وبريء. لكن هل البراءة من شروط الثورة؟! كنت أظن أنه الوعي!. وهو ما يفرق الثورة عن مجرد الهياج. ولخص الشباب مطالبهم في جملة لحنوها وتغنوا بها هي (الشعب.. يريد.. إسقاط النظام). وهي جملة ناقصة لأنها في حد ذاتها لا تعني تغيير النظام، بل مجرد إسقاطه فورا!. أما الحكماء فقد فهموا أنهم يريدون (التغيير . تغيير النظام الحالي بنظام أفضل. وهو يختلف عن إسقاط النظام. فالنظام مطلوب دائما وأبدا في ظل أي نظام!. ملكي أو جمهوري. ليبرالي أو ديكتاتوري. عسكري أو مدني. هل فهم هذا صعب؟. الانتقال من نظام إلي آخر. يحدث إما عن طريق انتقال السلطة سلميا وهو ما أعلنه الشباب منذ البداية بكلمة (سلمية) أو عن طريق إحداث فوضي - بقصد أو بدون قصد - يتمخض عنها نظام جديد ربما لم يقصده الثوار!. إذ ما سألت ماذا بعد إسقاط النظام، انعدم الرد.وكأن الجواب المستتر سنبحثه فيما بعد. أي أن الهدم مقدم والبناء مؤجل لأجل غير مسمي. يعرف المهندسون أن للهدم طرقا تحقق إنجازه في أقل وقت ممكن وبحيث لا تجعله ينهار فوق رءوسنا. كذلك يعرفون أن للبناء أساليب وقواعد علمية تختلف باختلاف الهدف من البناء والتكاليف التي يتطلبها الخ. والعقل كان موجودا في حرص المتظاهرين أن تكون الثورة سلمية.وظهرت روح الجماعة والعمل كفريق واحد فتلاحم الناس في الميادين لا في مجرد الهتاف بل الغناء والتواصل والتراحم بينهم والعمل بنظام. وفي معالجة الأطباء للمصابين مجانا.في اقتسام الماء والخبز، في اختفاء التحرش والسرقة وفي قبول الجميع لبعضهم البعض رغم أي اختلافات طبقية وثقافية ودينية. جملة إسقاط النظام وحدها قد تعني معاداة مفهوم النظام علي الإطلاق أي الفوضي. لذا فجملة تغيير النظام أكثر دقة.وحقا التغيير المطلوب معروف في مبادئ عامة كتحقيق الحرية، الكرامة، الديمقراطية. العدالة الاجتماعية. التنمية الخ..يبقي سؤال: كيف يتم هدم القديم ومتي يبدأ البناء ومتي ينتهي وكيف يكون؟. مرة أخري يعرف المهندسون خطوات العمل، وهنا لا ينفع الحماس وحده ولا النوايا الطيبة والتضحيات وكذلك لا تكفي الشعارات والأناشيد. في ماضينا ثورة 19 الشعبية التي جاءت بسعد زغلول فحاربت الإنجليز وكافحت من اجل الحرية والديمقراطية وتبادل السلطة وساهمت في النهضة التي بدأها محمد علي. النموذج الثاني حركة الضباط الأحرار المباركة (كما أسموها هم) فأيدها الناس خاصة الشباب ولا عجب والضباط الذين قاموا بها من الشباب، كان أول عمل للحركة تنحية الملك فورا ثم أعلنوا ستة أهداف سياسية واجتماعية لم يختلف عليها أغلبية الشعب، تهدم بعض أسس البناء القائم وقتها لا كلها ولكنهم لم يعلنوا كيف سيتم التغيير ولم يأخذوا رأي أحد من الشعب. وغيروا اسم حركتهم إلي الثورة المجيدة فلم يستطع أحد أن يقف في وجه دباباتهم، ثم راحوا يعيدون البناء الجديد يوما بيوم بطريقة المسرح التجريبي وفي خطوات متتالية بسرعة البرق فتم إلغاء الأحزاب ومجلسي النواب والشيوخ ووقف العمل بالدستور ومحاكمة رموز العهد السابق وأطاحوا بقائدهم محمد نجيب وسلسلة قرارات فوقية كبلت حرية الشعب وركزت السلطة في يد رجل واحد. واعتقال كل من يعمل بالسياسة أو يفكر بعمل مظاهرة من خمسة أشخاص أيا ما كان اتجاهه الفكري. بالطبع كان هذا البناء ينقصه العقل بدعوي الثورية وقاد إلي عكس كل أحلام الشعب. الآن نحن أمام اختيار هذا النموذج أو ذاك. الأول تم بواسطة إعمال العقل. فالتغيير كأي مولود جديد يتطلب نضجا يلزمه وقتا لينمو ويشب عن طور المراهقة.أما الحركة المباركة فقد أغرتها القوة لتنفذ تغييرات جذرية بدت ثورية في وقتها كي تقلب كل الأوضاع في سرعة فأخذتنا إلي سلسلة من الهزائم علي كل المستويات وإلي أوضاع دستورية نعاني منها اليوم. فإذا كانت المظاهرات تغني عن الاستعانة بالجيش للقيام بالمهمة مرة أخري فإنه يبقي أن تقود المظاهرات إلي تغيير مدروس بطريقة تجعل السلطة الحالية تستجيب له وهو ما ظهرت بوادره. فيحدث تغيير النظام من خلال نظام، بتعديل بعض القوانين لتصل بنا مؤقتا لوضع يمكنا من تغيير أكبر. وهي فرصة أصبحت ممكنة لبناء دولة مدنية حديثة عبر ثورة حقيقية عاقلة وليست من خلال الهياج والفوضي. آن الأوان لتحويل الهتافات إلي أهداف قابلة للتحقيق علي أرض الواقع ولو كانت متدرجة كخطوة انتقالية. فالهتافات مجرد عناوين جميلة بينما الشيطان يكمن في التفاصيل. وقد سمعت أحد المتحدثين العجائز يقول إنه يجب إنهاء العهد الفرعوني. وكلنا معه لكن لماذا لم يقل إنهاء عهد القبائل؟. فالعهد الفرعوني استند لدولة قوية موحدة (رغم عيوبها بحكم قدمها) صنعت الحضارة فاقتبستها أمم العالم التي كانت تعيش كقبائل وبعضها من حولنا ما زال يعيش كذلك. الشباب الذي يطالب بالديمقراطية لا يصح أن يفرضها بشروط غير عملية تخلق فراغا لن يتمكنوا من ملئه وحدهم ولا يستقيم أن يقوموا به وهم يدعون للديمقراطية. فورة الشباب لا تجب حكمة الكبار، ووعي المختصين، ورؤية المفكرين. من بين الشباب من دفعوا حياتهم ثمنا للتغيير. لكن من الكبار من دفعوا الثمن علي مدي ستة أجيال قبل أن تبدأ مظاهرات التحرير بسبب أخطاء في حق كل المصريين لا الشباب وحدهم. وفي رأيي أن إعمال العقل يقول إن مصلحة الرئيس مبارك أن يسمح بهذا التغيير وهو يترك السلطة لا العكس كما يظن بعض المتشككين!.