عندما رسم البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو في الرمال العربية، حدود الدول على الجسم المريض للإمبراطورية العثمانية في 16 أيار (مايو) 1916، لم يعرفا أن لندنوباريس ستستجديان بعد مئة سنة لدى واشنطن وموسكو دورًا في رسم «الحدود» التي خطاها وأن الشمس ستشرق على إمبراطوريتين أخريين وبمفردات جديدة... وأن الحدود المصطنعة سيعاد رسمها بالدم وليس الحبر الأزرق. لم يكن سايكس وبيكو يتوقعان أن الدول الوليدة من خريطتهما، ستشهد خلال عشرة عقود الكثير من الانقلابات والاحتلالات والوصايات والتدخلات ومحاولات فاشلة لصنع السلام للصراع العربي- الإسرائيلي والحروب الأهلية والفساد.. كل شيء عدا «الدولة الوطنية» التي اعتقدا بإمكان فرضها بعد الحرب العالمية الأولى من فوق إلى تحت. كانت بريطانياوفرنسا بحثتا بعد 1915 في محاصصة للمناطق العربية الهاربة من الأمبراطورية العثمانية وأجرى المفوض البريطاني في القاهرة هنري مكماهون مفاوضات مع الشريف حسين لدعم «الثورة العربية» والاستقلال عن العثمانيين لمواجهة دعوات السلطان محمد الخامس المدعوم من ألمانيا ب«الجهاد». وقسم اتفاق سايكس- بيكو العرب إلى مناطق نفوذ بين بلديهما ورسم حدود جغرافية بعيدًا من أي اعتبار للبعد الطائفي والديني والعشائري والقبلي. «الخديعة الاستعمارية» وخيانة الوعود التي قدمها الضابط البريطاني بيتر إدوارد لورنس (لورانس العرب) إلى الشريف حسين للانتفاض ضد «الخلافة»، بقيت في الدروج إلى حين كشفتها حكومة الثورة الروسية في العام 1917 ثم تقديم لندن وعودًا إلى الحركة الصهيونية ب«وطن قومي» وإعلان «وعد بلفور» في نوفمبر 1917. والتعديل، على اتفاق سايكس- بيكو حصل لدى بروز أهمية النفط. إذ تخلت فرنسا عن فلسطين والموصل مقابل حصة لها بالنفط. وأقر في إبريل 1920، في مؤتمر سان ريمو الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردنوالعراق والفرنسي على سوريا ولبنان، الأمر الذي صادقت عليه عصبة الأمم بعد سنتين. وخلال أكثر من نصف قرن من استقلال دول سايكس- بيكو بعد الحرب العالمية الثانية، جرت محاولات عدة لبناء «الدولة-الأمة» قام بها شيوعيون وقوميون وإسلاميون، مدنيون وعسكريون انتهت جميعًا إلى النتيجة الواحدة، فشل الدولة الوطنية وتعزيز الديكتاتورية والاستبداد بمسميات عدة وراء جدران «دولة» سايكس- بيكو. انتهاء الهوية الوطنية وبروز الهويات الصغيرة. الطائفة، العشيرة، الدين، العرق، الحي، المنطقة! وفي 2011 وبعد عقود من رياح التغيير في أوروبا الشرقية وانهيار جدار برلين في 1989، هب الربيع في الدول العربية وحمل معه الأمال الكبيرة والطموحات البراقة للشباب الملهمين من وسائل التواصل الاجتماعي وللطبقة الوسطى الباحثة عن العدالة. لكن المخاض كان عسيرًا. منذ سقوط بغداد في 2003 اختلفت الأساليب والنتيجة واحدة: تدخلت أميركا لتغيير النظام العراقي فسقطت الدولة. تدخلت دول «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) جزئيًا في ليبيا في 2011، فانهارت الدولة. لم تتدخل أميركا والغرب في سوريا، فتشظت البلاد. لم يكن متاحًا الطلاق المخملي بين أنظمة سايكس- بيكو والمجتمعات. وكأن المتاح هو الطلاق الدامي كما حصل في يوغسلافيا. والحدود التي ترسم بين الدول أو داخلها ترسم بالدماء وتخترق بالدبابات والطائرات. «داعش» الذي أعلن «خلافة» في يونيو 2014 محا الحدود بين العراقوسوريا وأسس «ولاية الفرات» في جناحي بلاد الرافدين. والمليشيات تتنقل غير آبهة بالحدود. أيضًا، التحالف الدولي بقيادة أميركا، يقصف فوق سورياوالعراق. حدود سايكس- بيكو موجودة في الخرائط فقط. مصيرها في عهدة البيت الأبيض والكرملين. التغيير يحصل داخل هذه «الحدود». بين العواصم والمدن الأخرى، بين المركز والأطراف. والأكراد الذين تعرضوا بدورهم ل«خديعة» أخرى قبل مئة سنة، يعتقدون بأن محور واشنطن- باريس سيصحح التاريخ. إقليم كردستان يتفاوض من موقع القوة مع بغداد. والإدارات الذاتية الكردية ترث بثقة النظام «البعثي» في شمال سوريا وشمالها الشرقي. أكراد سوريا طلقوا إدارة أقاليمهم من دمشق. و«داعش» ذو الرؤوس المتعددة منصة لرسم الحدود داخل الدول وبينها. والتاريخ يكتب بالدم. والمخاض العسير سيستمر سنوات وعقودًا. هذا المقال لا يعبر الا عن رأي كاتبه