بلا شكٍ، تمثل أربعة عقود من عمر مجلة (أكتوبر) فترة عامرة ومزدحمة بجلائل الأعمال والمواقف والتفاصيل، شخصيات ومشاهير ولحظات تاريخية، هى جزء من تاريخ هذا الوطن، فى الوقت الذى كانت فيه أيضا شاهدة عليه وموثقة له. أربعة عقود شهدت فيها المجلة سنوات أمجاد لا تتكرر، كما شهدت فترات نكوص لعبت فيها عوامل عديدة فعلها، لكن التاريخ لا يكذب ولا يتجمل، والتاريخ يقول لنا، عبر شهادات وكتابات ووثائق أصيلة وشهود عدل، إن هذه المجلة التى تأسست بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات فى أواخر شهر أكتوبر سنة 1976، كانت حدثا جللا بكل المقاييس، وكانت إضافة حقيقية ومتميزة فى مسيرة الصحافة المصرية، واستطاعت بفضل النخبة المختارة التى قامت على أكتافها هذه المجلة أن تتصدر الساحة الصحفية بامتياز واقتدار واستحقاق لما يزيد على عشرة أعوام متصلة.وإذا كان السادات قد أسند رئاسة تحرير المجلة إلى نجم من نجوم الصحافة المصرية، وواحد من أنبغ وأنبه الكتاب الصحفيين فى العالم العربى آنذاك، ففى ظنى أن الاختيار لم يكن عشوائيا، ولا «ضربة لازب»، كما يقول التراثيون، ولكنه جاء اختيارا موفقا لعوامل كثيرة ليس أولها أو آخرها أن أنيس منصور لم يكن الصحفى السياسى فقط بل كان المثقف الفنان متعدد المواهب واسع الخبرات، يتمتع بشبكة من العلاقات الإنسانية والمهنية بأعظم وأشهر شخصيات المجتمع، فى السياسة والصحافة والأدب والفكر والفن، وكان أنيس منصور موهوبا وبارعا فى استثمار هذه الميزة بما انعكس بالتأكيد على مجلة أكتوبر وأداءاتها ونجاحاتها المتلاحقة التى تحققت على يديه. أذكر أن المرة الأولى التى قرأت فيها مجلة أكتوبر واقتنيت عددا منها كان فى النصف الثانى من الثمانينيات، ربما سنة 1986، أو 1987، لا أذكر على وجه التحديد، لكنى أتذكر جيدًا أن والدى قد أعطانى نقودا لشراء عدد من مجلة أكتوبر التى كانت تنشر مذكرات المشير محمد عبد الغنى الجمسى، أحد أبطال حرب أكتوبر، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناءها، وطلب منى الوالد أن أتابع الأعداد لاحقا وتجميع حلقات هذه المذكرات كاملة. وفر لى الوالد -مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية- فرصة ذهبية للتعرف على مطبوعة جديدة علىّ آنذاك، وكانت المرة الأولى التى تصافح فيها عينى صفحاتها، وأبوابها، وأقرأ للمرة الأولى المواد الثقافية والفنية التى كانت تستهوينى وتجتذبنى بشدة وأنا فى هذه السن الباكرة، وكان أن تعرفت من خلالها على أسماء فرج فودة وسعيد العشماوى وعبد العظيم رمضان وحسين مؤنس، ومن محررى المجلة فى أبواب الثقافة والأدب والفن عبد العال الحمامصى، وفخرى فايد، ومحمود فوزى، ومحمد قابيل، وفتحى الإبيارى. لم يكن غريبا ولا مستغربا على مجلة (أكتوبر) التى كان يترأس تحريرها مثقف واسع الثقافة وأديب روائى وقاص ومسرحى وفنان متعدد المواهب مثل أنيس منصور أن يكون هو نفسه «المحرر الثقافى» الأول للمجلة، وأن يساهم وهو رئيس لتحريرها، بمواد ثقافية خالصة وأدبية محضة وفكرية من الطراز الأول، على صفحات المجلة، وأن يشرف بنفسه خاصة فى سنواتها الأولى على المادة المقدمة للنشر ومراجعة تحريرها، وكان أن استثمر أنيس منصور علاقاته الواسعة الطيبة بأكبر كتاب عصره فاستكتب للمجلة خصيصا نخبة ممتازة، منهم: نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمد جلال كشك، ومصطفى محمود، وعلى سالم، وفايز حلاوة وآخرين كثيرين. ولا يمكن أن يغفل أى مؤرخ لتاريخ الصحافة الثقافية أو باحث مهتم بتتبع تطور الصفحات الثقافية والأدبية على صفحات الجرائد والمجلات عن أن أنيس منصور قد قدم تجربة فريدة من نوعها، وهى نشر ما يمكن أن نطلق عليه «المذكرات الثقافية» فى مقابل «المذكرات السياسية»، أو جوانب من «السيرة الذاتية الثقافية»، برع أنيس منصور فى ذلك براعة لا توصف وكتب على صفحات المجلة حلقات متعددة تحت عنوان «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» جمعها فى ما بعد فى كتاب من أشهر كتبه وأكثرها مبيعا ورواجا. أنيس منصور هو الذى اقترح على إحسان عبد القدوس أن يكتب لمجلة (أكتوبر) تحت عنوان «على مقهى فى الشارع السياسى» يروى فيها جانبا من مذكراته وسيرته الصحفية والسياسية، وهى أيضا التى جمعت فى ما بعد فى كتاب من أشهر كتب إحسان عبد القدوس. وربما لا يعرف الكثير من أبناء الأجيال الشابة والناشئة أن نجيب محفوظ قد نشر روايته الملحمية «الحرافيش» مسلسلة على صفحات مجلة (أكتوبر) خلال الفترة (76-78) قبل أن ينشرها مجمعة فى كتاب، وهو تقليد جميل للأسف الشديد اختفى واندثر من صحافتنا كلها خلال العقدين الأخيرين! يروى أنيس منصور فى مقال له نشره فى الأهرام صبيحة اليوم الذى توفى فيه نجيب محفوظ (31 أغسطس 2006) «وعندما أخذت من نجيب محفوظ مسلسل الحرافيش لنشره فى مجلة أكتوبر قدمها بذراعيه كأنه أم تعرض طفلها على الأهل لكى يقبلوه ويتأملوه ويدعو له بالعافية والسعادة, وقال ضاحكا: آخر العنقود!». وكان أنيس منصور أيضا حريصًا على رعاية هذا التقليد الجميل، وأحد المفاتيح السحرية فى نجاح الصحافة المصرية فى عصرها الذهبى، أقصد نشر الأعمال الروائية أو الإبداعية أو حتى غيرها على حلقات مسلسلة، لكبار المؤلفين المحترمين، والأسماء الثقات، والكتاب الذين يحظون بسمعة عالية وجماهيرية كبيرة «حقيقية وليست زائفة». فعل هذا مع نجيب محفوظ فى روايته «الحرافيش»، ومع توفيق الحكيم، ومع يوسف عز الدين عيسى، وزهير الشايب الذى نشر مذكراته عن الفترة التى قضاها فى سوريا ورصد خلالها وقائع تجربة الوحدة مع سوريا والانفصال تحت عنوان «السماء تمطر ماء جافا»، وحتى مع الرئيس السادات نفسه! ورغم أن مجلة (أكتوبر) نشأت فى الأساس «سياسية اجتماعية» كما هو مكتوب على غلافها، لكن أنيس منصور كان بحسه وثقافته الواسعة وإداركه المنفتح يفهم من كلمتى «سياسية اجتماعية» معناهما الواسع الإنسانى المنفتح، أى بالضرورة مجلة شاملة ومتكاملة تقدم التحليل السياسى ومقال الرأى والتحقيق الذى يفجر قضية والمتابعات الأسبوعية، فى الوقت الذى تعنى فيه عناية كبيرة بالفنون والآداب والمرأة والاقتصاد وبعض المواد المسلية الأخرى كالمنوعات وما شابهها، وأظن أن أنيس منصور كان يمتلك من الجرأة والخيال الصحفى الذى يجعله مبادرا فى الأحداث والمناسبات الكبرى إلى إخراج أعداد وأغلفة «تاريخية» و«غير مسبوقة» بكل ما تعنيه الكلمة، مثلا فى وفاة الفنان عبد الحليم حافظ صدر الغلاف مختلفا تماما عن الخط الأساسى للمجلة، لكنه بحسه الصحفى ومرونته العقلية وذكائه الحاد أدرك إيقاع اللحظة فلم ينفصل عنها ولم تفته التقاطها ورصدها، وتكرر هذا فى مناسبات كثيرة جدا. كان هذا تقليدا أرساه أنيس منصور، تابعه فيه من خلفه فى رئاسة تحرير المجلة، مثلا، عندما فاز الكاتب والأديب يوسف عز الدين عيسى، الروائى والقصصى والإذاعى الشهير خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، بجائزة الدولة التقديرية فى الآداب، خرج غلاف مجلة (أكتوبر) تتصدره صورة كبيرة بالألوان ليوسف عز الدين عيسى أمام مكتبته وكتب على الغلاف «عالم الحشرات الذى فاز بجائزة الآداب!»، وكانت هذه لفتات ذكية وبارعة تؤكد دائما على أن رئيس التحرير ليس «منصبا» بل «ثقافة» و «وعى» و «حسن إدراك» و»قراءة سليمة» فى المقام الأول قبل أى شىء آخر. محررو أكتوبر الثقافيون بالتأكيد كانت كاريزما وشهرة أنيس منصور طاغية للدرجة التى يتوارى معه فيها أى اسم آخر، وأظن أن المحرر الأول الذى اشتغل بالشأن الثقافى والأدبى بالمجلة، فى فترة أنيس منصور، قد ظُلم ظلما بينا، فماذا كان فى وسعه أن يفعل أو أن يقدم وأن يكتب وبجواره عملاق هادر وكاريزما مرعبة اسمها «أنيس منصور»؟! لكن، ورغم ذلك كله، كان ثمة صفحات مخصصة للثقافة والآداب، تولى تحريرها الكاتب الراحل الكبير عبد العال الحمامصى، أحد رموز ووجوه جيل الستينيات الأدبى، وكان أحد كتاب القصة الكبار فى مرحلتها الما بعد يوسف إدريس، وكان أيضا من زمرة المثقفين الغاضبين دائما، المتمردين دوما، الساخطين أبدا! تجربة عبد العال الحمامصى فى الشأن الثقافى والأدبى كانت تجربة مهمة وأصيلة، وسيجد من يقلب فى صفحات مجلة (أكتوبر) فى ذلك الوقت تجليات ناصعة للحمامصى فى الحوار والتحقيق وبعض الأمور الأخرى، كانت لغته مميزة بكل المقاييس وكانت له ومضاته التى لا تخلو من إبداع ولا شطط! ظل الحمامصى وعلى مدار أكثر من 20 عاما يحرر الباب الأدبى لمجلة (أكتوبر)، وكان يكتب خواطره وأفكاره ورؤاه تحت عنوان (أقول لكم).. كما حاور الحمامصى كبار الكتاب والمثقفين والأدباء، مصريين وعربا، وأرّخ لجوانب دقيقة فى أروقة وجنبات هؤلاء المبدعين والمفكرين، على صفحات مجلة (أكتوبر)، وهى التى جمعها فى كتاب «حوارات حول الثقافة والفن والفكر»، وصدر ضمن سلسلة اقرأ عن دار المعارف. وبحكم صداقته وقربه من عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، جمع الحمامصى كل الحوارات والأحاديث واللقاءات التى أجراها مع أديب نوبل عبر عقود عديدة، ونشر أغلبها على صفحات (أكتوبر)، فى كتابه «هكذا تكلم نجيب محفوظ» مسجلا حواراته النادرة معه.. كذلك أعماله التى أراها مهمة وجديرة بالقراءة «البوصيرى.. المادح الأعظم للرسول»، «القرآن معجزة كل العصور»، «هؤلاء يقولون فى السياسة والأدب»، «أحاديث حول الأدب والفن والثقافة»، «راحلون فى وجدانى».. وغيرها، كلها جاءت حصيلة كتاباته فى مجلة أكتوبر، وهى للأمانة كتابات شاهدة على نصاعة أسلوب متميز فى لغتنا المعاصرة، وبيان ناصع ينم عن تمثل واستيعاب لتراث هذه اللغة بالإضافة إلى ذائقة رائقة حساسة، ووعى مرهف بجماليات اللغة العربية وبيانها. أيضا من الذى اتصلوا بتحرير المواد الثقافية بمجلة (أكتوبر)، الأديب السكندرى المعروف فتحى الإبيارى، وهو من الكتاب الذين يثيرون دهشة أى شخص بغزارة إنتاجهم وإصداراتهم التى كانت تصل إلى حد إصدار 5 كتب دفعة واحدة فى أقل من عام، لكن مجهود الإبيارى على صفحات (أكتوبر) كان بارزا ومهما وترك بعضا من الموضوعات والمواد التى اتسمت بالموسوعية والتاريخ والأرشفة خاصة ما يتعلق منها بالمناسبات الدينية الثقافية، مثل المولد النبوى الشريف، الإسراء والمعراج، والهجرة النبوية، استطاع أن يقدم مزيجا خاصة بين كتابة المناسبات الدينية الخالصة وبين لمسات تحريرية ثقافية تحاول أن تتجاوز إطار الترديد والتكرار والاجترار فى مثل هذه المناسبات وصبغها بمسحة قصصية لطيفة وطريقة عرض شائقة وجذابة. وتأتى فى هذا السياق أيضا تجربة الأستاذة زهيرة البيلى، التى تولت الإشراف على الصفحة الثقافية لبعض الوقت، وقدمت من خلالها إسهامات محمودة، لكن أهم ما يميز هذه الفترة؛ فترة إشراف زهيرة البيلى على الصفحة الثقافية فى ذلك الوقت، هو اكتشاف صحفى واعد وموهبة باذخة وثقافة لا تبارى والذى سيصير الآن الناقد اللامع والقدير والكاتب الكبير أيضا محمود عبد الشكور، أحد أبرز الأقلام الذهبية فى عالمنا العربى. كل عام وأكتوبر واعية بماضيها الزاهر ومجاهدة فى حاضرها الراهن، ومتشوفة لمستقبلها الواعد..