فى عالمنا المعاصر - لامفر - من الاعتراف بأهمية أن تكون قوياً لتنعم بالسلام والأمن . والقوة عادة تستند لقوة عسكرية وهى غالباً تجعل من أصحابها ضحايا لسباق التسلح للتزود بالمعدات العسكرية ذات التقنية التكنولوجية المتطورة لتنجح هذه الدول فى النهاية وتحقق ما تنشده من الأمن السياسى والاجتماعى ولاشك أن هذه النظرية ساعدت فى تغيير موازين القوى فى العالم لصالح الأوفر عتاداً وسلاحاً. وقد أسهم فى ترسيخ هذا المفهوم طرح العديد من النظريات الحديثة التى روجت لها وسائل الإعلام فى عصر العولمة منها نظرية «صدام الحضارات» ونظرية «نهاية التاريخ» و«الحروب الاستباقية» لتكون القوة هى الحل الفاصل لأى خلاف مهما كان حجمه وهنا يتصدى الدبلوماسى المحنك أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا الحالى لهذه النظريات ويثبت فشلها ويطرح تعديلات أثبتت نجاحها عند التطبيق ومن هذه النظريات نظرية صدام الحضارات ويقول أوغلو إنها فى الحقيقة تسمى «صراع المصالح» وأضاف أن المجتمع الغربى يواجه أزمة الإحساس بالأمان بسبب الاستخدام المفرط للقوة فى التعامل مع الآخرين. ويقول د. إبراهيم بيومى أستاذ العلوم السياسية بالمركزالقومى المصرى إن أحمد أوغلو صاحب رؤية استراتيجية أصيلة تنسب إليه وحده فهو يعتمد على الثقل الحضارى واعتباره مصدراً إضافياً للقوة فى العلاقات الخارجية للدولة بالإضافة لمراعاة التوازن الدقيق بين القوة المفتعلة وقوة الحق الأصيل والتى استند إليها فى الوساطة بين السوريين والإسرائيلين وبين الإسرائيليين والفلسطينيين. مؤلف العمق الاستراتيجى وقد نجح أوغلو من خلال نظريته (العمق الاستراتيجى) التى تضمنها كتابه وبنفس العنوان ليصبح مرجعاً أساسيًا يدرس فى الكليات العسكرية التركية وأعيد طبعه أكثر من 17 مرة منذ صدور الطبعة الأولى عام 2001 ويقول أوغلو منذ توليه منصب وزير الخارجية «إن تركيا لديها الآن رؤية سياسية خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وإننا لم نعد بلد رد الفعل «فقد نجحت السياسة التى ابتدعها أوغلو فى أن يكون لتركيا دورها الفاعل والمبادر فى كل القضايا الإقليمية والدولية ويؤكد أوغلو أنه نجح فى الرد على الزعم الغربى الذى وضع بلاده فى مكانة هامشية خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة والتى جاءت على لسان الكاتب صمويل هنتجتون صاحب نظرية (صدام الحضارات) والذى وصف تركيا بأنها دولة ممزقة بين الغرب من جهة والشرق من جهة أخرى ويرد أوغلو على هذا الزعم بأن تركيا دولة مركزية ذات موقع أفروآسيوى فهى تقع بين أفريقيا وآسيا وأوروبا وليست دولة أطراف وإن موقعها المركزى يجعلها تمتلك القدرة على التأثير والتأثر فى الدول المحيطة بها ويقول أوغلو إن تصالح تركيا مع ذاتها كدولة إسلامية مع استمرارها فى الانفتاح نحو الغرب وإقامة علاقات متوازنة مع دول الجوار مبنية على الاحترام المتبادل هو الأساس الذى اعتمدت عليه نظريته العثمانية الجديدة فلا يمكن فصل التاريخ التركى والعربى والإيرانى والكردى عن بعضهم البعض فتركيا تفضل سياسة التواصل أو القوة الناعمة والمشاركة الاقتصادية المتبادلة والتى يعتبرها من أفضل الوسائل ويلخص أوغلو سياسته الخارجية فى أربعة أسس أول هذه الأسس هو الأمن للجميع فنحن نريد منطقة أمان مع العراق فأمن الشيعة والسنة والأكراد والتركمان هو هدفنا لأنهم كلهم أقاربنا أما الأساس الثانى هو حل الخلافات فى المنطقة من خلال الحوار وليس من خلال التوتر كما كان شائعاً والأساس الثالث هو التبادل الاقتصادى وليس التنافس الاقتصادى حتى لايكون التنافس الاقتصادى سبباً لمحاربة بعضنا البعض أما الأساس الرابع فهو التعايش الثقافى المتعدد ويجب المحافظة على هذا التعدد الثقافى والعرقى وأن تكون كل المدن متنوعة وألا تعتمد سياستنا على التحريض الطائفى أو العرقى ويجب التخلص نهائياً من سيكولوجية التهديد وأن يكون هناك تراكم للصداقة لا تراكم للتوتر. وهنا يطرح سؤال هل تسعى تركيا إلى تعزيز دورها الإقليمى لأنه السبيل لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى ويرد أوغلو بذكائه المعهود على هذا السؤال بأن الوضع اختلف كثيراً قبل وبعد الحرب الباردة حيث كان الوضع قائماً على التحيز لطرف ضد طرف إما أن تكون عضواً فى حلف الناتو فتصبح ضد روسيا وإما أن تكون عضواً فى حلف وارسو لتكون بالطبع عدواً للناتو وبعد انتهاء الحرب الباردة حرصت تركيا على دعم سياسة حسن الجوار مع جيرانها وهذا لايعدو تحركاً تكتيكياً بل خياراً استراتيجياً. الدبلوماسية هى الحل ويستعرض أوغلو خلال كتابه الشهير أن تركيا كان ينظر إليها سابقاً على أن لديها عضلات قوية ومعدة ضعيفة ومشاكل فى القلب وقوة الدماغ وهذا يعنى أن لتركيا جيشا قويا واقتصادا ضعيفا وتفتقر للثقة بالنفس ولا تجيد التفكيرالاستراتيجى أما الآن فتركيا موجودة وتربطها بجيرانها علاقات طيبة كما أنها نجحت باستخدام الدبلوماسية الناعمة فى تحويل أعدائها السابقين كروسيا وسوريا إلى حلفاء وأصدقاء ونجحت أيضاً فى تحقيق علاقات متوازنة بين إيران وحزب الله وروسيا والعالم العربى وأمريكا فإليها يرجع الفضل فى تذويب الجليد بين سوريا وإسرائيل وأمريكا ويوجه بعض الساسة انتقادهم بأن تركيا تحاول أن تستغل الفراغ السياسى الذى خلا بسبب ضعف أداء الدبلوماسية المصرية فى السنوات الأخيرة وترد تركيا على لسان وزير خارجيتها أوغلو أثناء زيارته التى قام بها مؤخراً لمصر بأن مصر هى قلب منطقة الشرق الأوسط كلها ونجاحها قوة دافعة لنا وستعطى قوة دافعة لمستقبل المنطقة السياسى والاقتصادى. فقد نجح الخوجا أوغلو كما كان يناديه رئيس الوزراء أردوغان وهى كلمة تعنى الأستاذ باللغة التركية فى إعطاء درس للجميع وتعددت الألقاب التى أطلقها عليه معجبوه، بل ومنتقدوه أيضاً ومن هذه الألقاب مهندس السياسة التركية الجديدة ورجل الظل وكيسنجر تركيا. وقد حصل على لقب سفير قبل أن يلتحق بالعمل الدبلوماسى وأصبح مرافقاً أساسيا فى كل الجولات السياسية والدبلوماسية التى يقوم بها كبار رجال الساسة والاقتصاد الأتراك وعلى الرغم من عزوفه عن الأضواء والمقابلات الصحفية والتليفزيونية لكنه عرف عنه بأنه ودود واجتماعى ومحب للنقاش والحديث فى التاريخ والثقافة والاقتصاد وقد انعكس ذلك على تركيا لتصبح دولة حديثة ذات نفوذ كما كان يريد دائماً.