فتحت ثورة 25 يناير شهية الشعب لتكوين الأحزاب، ومن كثرة ما سمعنا وقرأنا وعرفنا من جيراننا وأصدقائنا وسائقى التاكس والميكروباصات عن مشروعات تكوين الأحزاب خشى البعض أن يفتح فى الصباح «حنفية الماء» ليغسل وجهه فتنزل منها أحزاب جديدة. ربما هى الرغبة العارمة فى المشاركة المجتمعية والخدمة العامة والتنافس فى حب الوطن الذى عاد لأحضاننا بعد غياب طويل والرغبة العارمة فى ممارسة فعل السياسة الذى حرمنا منه طوعاً وكرهاً! أو كل ما سبق مجتمعا هو الذى دفع المصريين لإنتاج أفكار واختراع أحزاب بديلة للحزب الوطنى هذا المارد الأسطورى الذى احترق وتحول جسده البالونى العملاق إلى رماد فى ساعات قليلة بفعل ثورة يناير المجيدة. - 1 - ومن شائعة صدقها العوام وانتظروا تحقيقها عن قيام الأحزاب بالإخطار، إلى موافقة مجلس الوزراء فى اجتماعه الأخير نهاية الأسبوع المنقضى على مشروع مرسوم بقانون يقضى بتعديل بعض أحكام القانون 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسة أعتقد أن حسابات كثيرة سوف يصيبها الارتباك فى أذهان أصحاب مشاريع الأحزاب الجديدة. ومشروع التعديلات المقترحة من الحكومة لتنظيم قيام الأحزاب وممارسة نشاطها يتضمن عدد من المبادئ سوف تمثل بالتأكيد صدمة للجمهور الجديد من راغبى تكوين الأحزاب بعد أن تصطدم طموحاتهم بسقف التعديلات التى سوف يرون فيها نوعا من التضييق أو - إذا أحسنا النية - ضوابط شديدة الصرامة ناهيك عن صياغات مواد التعديلات التى يمكن تأويلها والتى من شأنها الحد من قيام الأحزاب، هذا بالإضافة إلى الإبقاء على لجنة الأحزاب وعملها فى قيام الأحزاب، واستمرار دورها الرقابى على أداء الحزب بعد قيامه وامتلاكها قرار حله وتصفية أمواله وتحديد الجهة التى تؤول إليها تلك الأموال والممتلكات إذا صدرت مخالفة من الأحزاب أو زالت عنه بعض شروط تأسيسه إلى آخره. هذه الشروط والضوابط سوف يراها كثير من المواطنين قيودا وأحسب أن منهم من سيحاول أن يخففها إن لم يستطع تغييرها من خلال الطعن فى دستوريتها، وأحسب أن الجدل حول هذا الأمر سوف يستدعى جدلا موازيا حول الإعلان الدستورى الذى سوف يصدر فى القريب العاجل، وأحسب أيضا أن الذى سيثير هذا الجدل هم الذين كانوا يطمعون فى تكوين أحزاب على أساس طائفى أو دينى أو على أساس أفكار تتعلق بمشاكل آنية يسقط معها الأساس الذى قام عليه الحزب بمجرد حلها، ولا نبالغ إذا قلنا إنه كانت هناك أفكار لقيام أحزاب تدعو أحياناً للضحك أو السخرية لكنها - وأكرر - الرغبة العارمة فى خدمة الوطن التى دفعت الكثيرين فى هذا الاتجاه. - 2 - والمسألة برمتها لا تخلو من جانب مشرق ومحاولات جادة لقيام أحزاب، هذه المحاولات تصدى لها عدد ليس بقليل من الشباب المثقف الواعى الذى فجر الثورة أو شارك فيها، ويعكف الآن على مهل وبهدوء طهى مشاريعه الحزبية وهو ليس ببعيد عن واقع مجتمعه واحتياجاته، وبعد دراسة متعمقة للحياة الحزبية وممارساتها والتجارب التى خرجت للنور منذ إطلاق المنابر ومن بعدها الأحزاب منتصف السبعينيات من القرن الماضى وحتى الآن. وأعرف أن أكثر هذه التجارب الشابة جدية تتوجه بأنظارها إلى التركيز على تحقيق العدالة الاجتماعية فى الجانب الاقتصادى هذا الأمر الذى غاب فى السنوات الأخيرة بشدة فمثل غيابه وقودا للثورة، وفيما يخص المستقبل فهو رمانة الميزان التى سوف تضبط مسيرة الدولة المصرية فى نهضتها المرتجاه والتى لن تستغنى فيها عن توجهها الرأسمالى، والجديد أن نربط هذا التوجه الرأسمالى بالعدالة الاجتماعية، وهو نظام عرفته أوروبا نهاية القرن التاسع عشر فيما عرف ب «الاشتراكية الديمقراطية» . ودون الاستغراق فى الجانب النظرى لهذا النظام فإنه بوجه عام يضمن الحرية للفرد ولا يسقط عن الدولة وظيفتها الاقتصادية كما هى فى نموذج الليبرالية الجديدة، وفى شقه السياسى يضمن نظام الاشتراكية لديمقراطية التعديدية السياسية والتداول السلمى للسلطة وكذا يضمن الفصل بين السلطات وبناء نظام برلمانى يحتكم إلى الدستور وهو إذ يطبق هذه الشروط فهو يخلق دولة مدنية ديمقراطية. والأهم أن هذا النظام فى جانبه الاقتصادى يعمل على إقامة اقتصاد متوازن قوامه العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، وهو حين يحرر الإنسان اجتماعياً واقتصادياً فهو يحاول فى نفس الوقت أن يوازى بين حاجاته المادية والروحية وبعبارة أخرى فإن هذا النظام حين يأخذ من الرأسمالية الحرية والديمقراطية فإنه يضبطها فى الممارسة العملية بسياج النظام الاشتراكى الذى يضمن العدل والمساواة استجابة للضرورات الإنسانية. - 3 - وأصحاب هذه النظرية يرونها طريقة لتنظيم المجتمع ووضع الاقتصاد فى خدمة عامة الناس ويرونها أيضا منظومة قيم ونموذج حياة وأسلوب عمل ديموقراطى واجتماعى يتيح ممارسة سياسية فعالة. وهذا النموذج الهجين من الاشتراكية والليبرالية الجديدة (التى أصيبت بضربات قاتلة فى السنوات الأخيرة) حقق فى بعض دول أوروبا الغربية نجاحات مغرية وعدلت على أساسه بعض دول اليسار فى أمريكا الجنوبية مساراتها بعد أن رفضت الانصياع للنموذج الرأسمالى الأمريكى وتألق حكامها حين أعلنوا تمردهم على السيد الأمريكى وطردوا من بلادهم البنك الدولى وصندوق النقد والخزانة الأمريكية. ببساطة غير مخلة فإن الاشتراكة الديمقراطية هو جسر للهروب من الليبرالية الجديدة وحريتها المتوحشة ومحاولة لإصلاح الوجه الاشتراكى الذى لم يعد مناسباً لمطالعة العالم الحر المعولم والتصالح معه. والنظرية وأن بدت مغرية إلا أن نقادها يرون أنها فى حقيقتها معالجة سطحية للمشكلات الكبيرة والعميقة التى تولدها الرأسمالية، وإنها (النظرية) خيار بلا محتوى وإنها لم تنجح فى التغلب بشكل حقيقى على أمراض اليمين الرأسمالى واليسار الإشتراكى. - 4 - وإذا كان الشباب المصرى الذى ساهم فى تفجير ثورة 25 يناير وقادها لنصل به ويصل معنا إلى اللحظة الراهنة يجتهد بالفعل فى البحث عن خيارات تحرك المياه التى عطنت من طول ركودها فى البركة السياسة للأحزاب المصرية فإنهم مأجورون على هذا الإجتهاد، أما غير المأجورين والتى تصل خطيئتهم إلى حد الأثم فهى هذه الأحزاب الموجودة على الساحة الآن والتى قبلت أن تتحالف من قبل مع النظام الراحل أو تركت الكهولة تدب فى أوصالها وفى أجساد كهنتها الذين لم ولن يحاولوا حتى مجرد الإجتهاد ويصرون على مواصلة الطريق بنفس الخيارات القديمة وبنفس قواعد اللعبة دون أى محاولة للتجديد أو الإبتكار وما سعى هذه الأحزاب المحموم الآن إلى التنسيق مع الإخوان لخوض غمار الانتخابات البرلمانية القادمة والقفز على أكتافهم ليحملوهم ويجلسوهم على مقعد أو مقعدين فى البرلمان القادم فى صفقات تضر بالعملية الديمقراطية.. أكرر ما هذا السلوك إلا دليل على الإفلاس وإقرار بالغياب عن الساحة والشارع السياسى وهو خيار ارتضاه القائمون على هذه الأحزاب المفلسة واطمئنوا إليه بديلاً عن التطوير وهو خيار - كما ترون - فاسد لا يصح أن يقبل به الشعب المصرى بعد ثورة 25 يناير.