هل قامت الحكومة البريطانية بأكبر مقامرة اقتصادية فى تاريخها بإعلانها عن أكبر خفض فى الإنفاق العام فى البلاد منذ عقود؟.. وهل تشكل خطط التقشف الخطوة الأولى لتراجع أكبر للدولة، وتنذر بانتهاء دولة المساعدات أم تنقذ بريطانيا من الانهيار الاقتصادى؟ وهل تشهد بريطانيا تحولات كبرى فى السنوات القادمة؟ أسئلة عديدة طرحتها ومازالت تطرحها وسائل الإعلام والصحف البريطانية منذ إعلان وزير الخزانة البريطانى «جورج أوزبورن» الأربعاء قبل الماضى أمام مجلس العموم تفاصيل أكبر خفض فى الإنفاق العام منذ الحرب العالمية الثانية. وأكد أوزبورن أنه سيتم تخفيض ميزانية الوزارات بنحو 25% أى ما قيمته 83 مليار جنيه استرلينى (130 مليار دولار) على مدى السنوات الأربع القادمة وفيما يخص وزارة الخزانة، قال الوزير إن وزاراته ستخفض ميزانياتها بنسبة 33% فى حين سيتم تقاسم جزء من المبنى الذى يحتضن وزاراته مع جزء من مجلس الوزراء. وفيما يتعلق بمخصصات العائلة المالكة ستنخفض نفقاتها بنسبة 14% عامى 2012 و 2013 فى حين ستجمد المنح المالية النقدية المخصصة لها، ومن ضمن المجالات التى سيقع عليها اكبر قدر من عبء التخفيضات الخدمات الاجتماعية وتعويضات البطالة والعجز الجسمانى ومعاشات التقاعد، وسيتم رفع سن التقاعد الحكومى إلى 66 سنة بحلول 2020 بدلاً من 65 سنة حالياً. وحول التخفيضات فى ميزانياتها الدفاعية قال رئيس الوزراء «ديفيد كاميرون» إن عدد القوات البرية سينخفض بمقدار 7 آلاف جندى بحلول 2015 ليصبح عدد الجيش 95.500 ألف مجند، وأضاف أن عدد الدبابات وقطع المدفعية الثقيلة سينخفض بنسبة 40% مشيراً إلى أن ميزانية وزارة الدفاع ستنخفض بنسبة 8% على مدى السنوات الأربع المقبلة، وقال رئيس الوزراء البريطانى إن عدد العاملين فى القوات البحرية والقوات الجوية سينخفض بمقدار 10 آلاف شخص ومضى كاميرون قائلاً إن هذه القرارات أملتها متطلبات الأمن القومى الذى يعتمد على ضمان المستقبل الاقتصادى للبلد. وقد أدت هذه التخفيضات الكبيرة فى الميزانية وخطط التقشف التى أعلنت عنها الحكومة إلى تنامى حالة من الجدل سواء بين الاقتصاديين والخبراء وأيضاً الصحف ووسائل الإعلام وبين المواطنين أنفسهم الذين انقسموا حول قرارات الحكومة الجديدة. وحرص ديفيد كاميرون ونائبه نيك كليج على الدفاع عن التخفيضات بوصفها سياسات تتسم بالعدالة، إلا أن النقابات العمالية والمعارضة أدانت ما قامت به الحكومة ووصفت خططها بغير العادلة لاسيما أنها ستتسبب فى إلغاء العديد من الوظائف، وخفض نفقات الرعاية الاجتماعية مما سيؤثر على أصحاب فئة الرواتب المتدنية وشارك الآلاف من نشطاء النقابات فى سلسلة من مظاهرات الاحتجاج فى مختلف أنحاء بريطانيا، كما وصف حزب العمال المعارض خطط الحكومة لمعالجة العجز فى الميزانية البريطانية ب «مقامرة متهورة» دافعها فكرى وليس اقتصادياً.. وتعرضت خطط الحكومة أيضاً لانتقادات من قبل الاقتصادى البريطانى الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد البروفيسور كريستوفر بيساريدس، مشيراً إلى أن أوزبورن ضخم من أزمة الدين ليشبهها بما حدث فى اليونان، ومحذر اً من أن التخفيضات الكبيرة التى أعلنها أوزبورن تهدد الاقتصاد البريطانى بمخاطر لا مبرر لها وقال بيساريدس فى مقابلة مع صحيفة (صنداى ميرور) البريطانية إن مخاطر أزمة الدين قليلة، لكن رأيى أن بريطانيا بعيدة جداً عن هذا الخطر، وأن وزير الخزانة ضخم من خطر الدين الذى يهدد البلاد. استطلاعات الرأى التى نشرتها الصحف البريطانية كشفت أيضاً عن اختلاف الرأى حول خطط الحكومة بينما نشرت صحيفة (صن) البريطانية أن 58% من عينة الاستطلاع قالوا إنهم يشعرون بأنه لابد من تخفيض النفقات، وقال 28% فقط إنه كان بإمكان الحكومة تجنب التخفيضات، وكشف استطلاع آخر للرأى أجرته صحيفة (الاندبندنت) البريطانية أن 95% من البريطانيين يرون التخفيضات فى الانفاق غير عادلة، وأعربوا عن اعتقادهم بأن الطبقات الأفقر فى بريطانيا ستكون الأكثر تضرراً منها، فى حين أشار 3% فقط إلى أنهم يصدقون أقوال أوزبورن بأن الأغنياء سوف يتحملون العبء الأكبر كما انقسمت الصحف الصادرة فى لندن بشأن خطط التقشف،فانتقدت الصحف اليسارية استهداف الفقراء، ودافعت الصحف اليمينية عن الخطط الجريئة للحكومة فقالت صحيفة (الاندبندنت) اليسارية إن هذه الإجراءات تندرج فى إطار التوجه العام للدول المتطورة التى يجب على حكوماتها (محاولة فعل المزيد لكن بتكلفة أقل) مضيفة لكنها (الحكومة البريطانية) لا تستطيع أن تفعل ذلك، لذلك ستشكل الاقتطاعات فى الميزانية الخطوة الأولى لتراجع أكبر للدولة، وأكدت الصحيفة أن الخبراء يرون بأن النساء هن الخاسر الأكبر جراء هذه السياسة التقشفية حيث ستخسر 350 ألف سيدة وظائفهن من أصل نصف مليون وظيفة ستلغى بفعل هذه السياسات التقشفية ، كما اعتبرت صحيفة (الجارديان) اليسارية أن المستقبل قاتم، والاقتطاعات فى المساعدات الاجتماعية ستضرب المريض والفقير أما صحيفة (ديلى تليجراف) اليمينية فقالت إن خطة التقشف تعنى أن الدولة تقلص دورها بفضل سلسلة من الإجراءات الذكية والمنهجية والشجاعة، مؤكدة أن وزير الخزانة قام بالاختيار الجيد. وقالت صحيفة (التايمز اليمينية) إن أوزبورن أعاد رسم شكل الدولة وخياراته فى الأساس الخيارات الصحيحة ورأت صحيفة (الصن) الشعبية القريبة من المحافظين أن أوزبورن يضرب بريطانيا، ويمنح بذلك البلاد فرصة القيام بتحول تاريخى عبر الابتعاد عن ثقافة المساعدة لمصلحة ثقافة العمل والاعتماد على النفس.