خطوات نحو «الهاوية» أو لعلها «قفزات» بحسب توصيف النخبة البريطانية قبل شهور مضت رسمت المشهد الطلابي «الغاضب» الذي اجتاح شوارع «لندن» اعتراضا علي سياسات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون التي باتت تهدد برفع مصاريف الدراسة الجامعية إلي ثلاثة أضعافها!! فقبل 3 شهور تقريبا، ألقت الكاتبة الإنجليزية «ناعومي وولف» الضوء علي أن تخفيض ميزانية التعليم سوف يأتي علي حساب العلوم الإنسانية والمجالات الأدبية والإبداعية لصالح العلوم التطبيقية، وهو ما يمثل تهديدا مباشرا للعقل الإنجليزي الذي أسهم بشكل مباشر في دعم الكثير من المجالات الثقافية والإنسانية وأن إنجلترا بهذا التصرف سوف تكون «أمريكا» جديدة من حيث الاضمحلال الثقافي. وهو ما أثار جدلا واسعا علي أكثر من صعيد، ساهمت فيه - آنذاك - «روزاليوسف» إذ استضافت علي صفحاتها كلا من د. محمد النشائي، العالم المصري المرموق متحدثا عن حاجة مصر - الآن - إلي العلوم البحتة، ود. مصطفي الفقي متحدثا عن أهمية العلوم الإنسانية وتأثيرها علي الشعوب ورقيها الأخلاقي والمعرفي. لكن رغم هذه الصورة التي أسهم في إثرائها داخل بريطانيا نفسها عدد كبير من الكتاب والصحفيين والباحثين، إلا أن الحكومة البريطانية - رغم وعودها الانتخابية قبل 6 شهور - بدأت تسير علي طريق رفع المصروفات الخاصة بالدراسة الجامعية من 4 آلاف يورو سنويا إلي 12 ألف يورو. موجة الغضب الأمر الذي قابلته اعتراضات واسعة النطاق تجاوزت القطاعات الطلابية التي حملت لافتات تندد بكاميرون وتصفه بالأحمق إلي مستويات سياسية متنوعة. في الوقت الذي كانت فيه وعود من أعضاء بالحكومة بعدم التصويت لصالح «مشروع الزيادة» إلا أن مجلس النواب البريطاني صوت بالموافقة علي قرار رفع الرسوم الدراسية بالجامعات والمدارس إلي ثلاثة أضعاف بأغلبية 323 صوتا. في حين صوت 302 فقط من أعضاء البرلمان بعدم الموافقة علي الاقتراح رغم موجة التظاهرات الطلابية الكبيرة وأعمال العنف التي اجتاحت شوارع العاصمة البريطانية لندن. كانت الاشتباكات قد بدأت، مع تصاعد موجة الغضب بين الشرطة والطلاب، مسفرة عن وقوع إصابات عديدة علي الجانبين، إذ كانت الشرطة تحاول إبعاد المتظاهرين عن مجلس النواب في حين اقتحمت مجموعات المحتجين صفوف الشرطة ورشقوهم بالحواجز المعدنية. وقد كشفت تلك الأحداث عن توترات عميقة داخل الائتلاف المشكل للحكومة بين المحافظين والليبراليين الديمقراطيين إذ إن موجة الاحتجاجات التي تسيطر علي الشوارع اللندنية بحسب الغاضبين الحكوميين من القرار، تضع بريطانيا ضمن قائمة الدول الأوروبية التي تشهد احتجاجات مماثلة علي السياسات التقشفية التي تعتمدها الحكومات الأوروبية مثل أيرلندا وإسبانيا. وقال منظمو المظاهرة الاحتجاجية: إن هذه الاشتباكات ليست سوي البداية، إذ إن الخطة المعتمدة تتناقض مع الوعود الانتخابية لحزب الديمقراطيين الأحرار، الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية البريطانية وأن الحزب تخلي عن تعهده الذي أعلنه في الحملة الانتخابية والمتعلق بإلغاء الأقساط الجامعية، مفضلا تغيير موقفه بعد انضمامه إلي الحكومة. مما سيجعل من الصعب علي أصحاب الدخل المتدني الالتحاق بالجامعات. أحد الطلاب يقول: تسعة آلاف في السنة للدراسة بالجامعة، إنه أمر سخيف، طالبة أخري تؤكد: إذا أخذت قرضا فسأظل أدفع فوائده طوال حياتي، التعليم يجب أن يكون حرا علي أية حال وحاليا، يدفع الطلاب البريطانيون ثلاثة آلاف جنيه في العام أي عليهم أن يدفعوا ستة آلاف جنيه حتي عام ألفين واثني عشر أو تسعة آلاف في حالات خاصة. ولأن الحكومة قد خفضت تمويلها للجامعات من سبعة مليارات إلي أربعة، فمن المتوقع أن تعوض الزيادة المنتظرة العجز البالغ ثلاثة مليارات. إحدي الطالبات تعلق قائلة: كنت أود أخذ إجازة لمدة عام لأسافر في أنحاء البلد، الآن أصبح ذلك مستحيلا. سيكون علي أن أوفر لاستكمال الدراسة. وطالبة أجنبية غيرت رأيها بشأن الدراسة هناك: أنا ألمانية وكنت أخطط للدراسة في المملكة المتحدة، الآن الدراسة أرخص في بلدي.. ولذا أفكر جديا في العودة إلي هناك. زيادة غير مبررة نيكولا ميلر، رئيسة قسم التاريخ في جامعة لندن، تعبر عن استيائها للقرار: الكثير من الناس سيتركون الجامعات البريطانية، بعد هذه الإشارة الواضحة جدا من الحكومة بأن ما نفعله للمجتمع لا جدوي منه، طالبة فرنسية تبدي قلقها الذي له ما يبرره، فهذه الزيادة لن تحول فقط بين الطبقات الفقيرة وبين التعليم الجامعي بل ستهبط من رغبة الطلاب الأجانب للمجيء للدراسة في بريطانيا. فالمصاريف الدراسية للأجانب زادت بدورها وذلك علي خلاف دول أخري كفرنسا وألمانيا التي لا تميز بين الطلاب الأجانب ونظرائهم المحليين. برنامج التقشف الذي وضعته الحكومة البريطانية وصف بأنه الأضخم في تاريخ أوروبا الحديثة ويعتبر خطوة قد تضع نهاية لدولة الرفاهية ويقضي البرنامج الذي أعلنه جورج أوزبورن وزير الخزانة أمام مجلس العموم بتخفيض ميزانيات وزارات وإدارات الحكومة بنسبة تتراوح بين 25 و40%، وأشار أوزبورن إلي أن هذا الخفض الكبير في الموازنة يصل إلي80 مليار جنيه إسترليني وهو ما يعد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.. كما أنه يطول الإنفاق الحكومي ويحدد مستقبل الاقتصاد البريطاني والحكومة الحالية. وتشير التوقعات إلي أن هذا التخفيض سيؤدي إلي الاستغناء عن نصف مليون وظيفة تقريبا خلال السنوات الخمس القادمة وكان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد أعلن تخفيض ميزانية الدفاع بنسبة80% بعد إجراء مراجعة الدفاع الاستراتيجية.. ومن المقرر أن يؤدي هذا التخفيض إلي الاستغناء عن أكثر من 42 ألف وظيفة في وزارة الدفاع وأفرع وخدمات القوات المسلحة البريطانية. وجاء برنامج التقشف الشامل بعد مناقشات مطولة بين وزراء الحكومة منذ شهر مايو الماضي ويهدف البرنامج إلي توفير 83 مليار جنيه إسترليني للمساعدة في سد العجز في الميزانية الذي بلغ 11% من إجمالي الناتج المحلي وهو مستوي قياسي يعد الأكبر بين دول مجموعة السبع الكبار وتستثني خطة التقشف وزارتي الصحة والتنمية الدولية التي تقدم معونات خارجية. أما وزارة التعليم فسوف يتم تخفيض ميزانيتها بنسبة 5% فقط ووفقا للتقديرات فإن وزارتي العدل والعمل والمعاشات ستكونان أكثر الوزارات تضررا حيث سيبلغ تخفيض ميزانيتيهما حوالي40% وتسعي الحكومة إلي الوصول بنسبة العجز في الميزانية إلي 2% خلال خمس سنوات ومن المتوقع أن تفقد1,2 مليون عائلة الدعم الذي تتلقاه للأطفال ابتداء من عام2013 بينما يفقد آلاف البريطانيين كليا أو جزئيا امتيازات أخري تتعلق بالرعاية الاجتماعية، وإذا قررت الحكومة خفض دعمها للوقود في الشتاء لأصحاب المعاشات فإن 12 مليون شخص قد يفقدون هذا الدعم. المغامرة ومن جانبها انتقدت المعارضة خطة الحكومة الائتلافية ووصفتها بالمغامرة الطائشة وحذر جون دنيام وزير الأعمال في حكومة الظل العمالية من أن الخطة سوف تفقد البلاد القدرة علي الاستثمار في القطاع الخاص وتنمية الاقتصاد كما نبه الوزير إلي مخاطر ارتفاع عدد العاطلين بسبب برنامج التقشف.وفي استطلاع نشرت نتائجه صحيفة صن البريطانية قالت إن 58% من عينة الاستطلاع قالوا إنهم يشعرون بأنه لابد من تخفيض النفقات وقال28% فقط إنه كان بإمكان الحكومة تجنب التخفيضات التي تهدف إلي توفير81 مليار جنيه استرليني خلال أربع سنوات لسد العجز الهائل في الميزانية. واستمرارا لحالة التقشف والاحتجاجات أعلنت مجموعة الصناعات الجوية والدفاعية البريطانية «بي أي إي سيستمز» أنها تخطط لإلغاء ألف وأربعمائة وظيفة نتيجة تخطيط الحكومة البريطانية لتقليص الإنفاق العسكري الذي تقدر موازنته بحوالي أربعة وأربعين مليار يورو بنسبة ثماني نقاط مئوية خلال السنوات الأربع القادمة. الوظائف الملغاة تتوزع من خلال عدة مصانع في بريطانيا الجزء الأكبر منها في مقاطعة لانكشاير. واعتبرت نقابة العمال قرار «بي أي إي سيستمز» مأساة للموظفين وللمملكة المتحدة عموما، كما أعلنت أن الحكومة ستحرم القوات البريطانية من أسلحة ضرورية للدفاع عن المملكة وقد رأت الصحف البريطانية أن خطة التقشف التي أعلنتها الحكومة ستغير بريطانيا وتنذر بانتهاء دولة المساعدات. اقتصاد في مهب الريح واتفق المراقبون علي أن الاقتطاعات الكبيرة في الميزانية التي تبلغ 95 مليار يورو تشكل تحديا هائلا. حتي إن صحيفة «فايننشيال تايمز» اعتبرته «أكبر تحد لبريطانيا خلال جيل». وكشف وزير المالية البريطاني المحافظ جورج أوسبورن أمام مجلس العموم أن نصف مليون وظيفة في الحكومة ستلغي لخفض خمس نفقات الدولة، من أجل خفض العجز العام من 1,10% من الإجمالي الناتج الداخلي هذه السنة إلي 1,1% في .2015 وعبر بعض المراقبين عن أسفهم للخطر الذي يواجهه الاقتصاد والاقتطاعات في الامتيازات الاجتماعية بينما هنأ آخرون الحكومة لمعالجتها قطاعا عاما مكلفا وغير فعال. لكن كل الصحف قالت إن البلاد ستشهد تحولات كبري في السنوات المقبلة. أما صحيفة «الجارديان» فقالت إن المستقبل قاتم والاقتطاع من المساعدات الاجتماعية ستضرب «المريض والفقير والأبوين اللذين يعملان». وأضافت أن هذه الاقتطاعات تتركز «بشكل قاس فعلا وبما ينهي دولة المساعدات علي الذين يملكون القليل». ورأت «أن وزير المالية لا يمكنه اقتطاع عشرات المليارات من اليورو من الاقتصاد كما فعل أوسبورن، بدون أن يهز ذلك البلاد وسيكون بلدا مختلفا في المستقبل». أما صحيفة ذي صن الشعبية القريبة من المحافظين، فقد رأت أن «أوسبورن يضرب بريطانيا» ويمنح بذلك البلاد فرصة «القيام بتحول تاريخي من خلال الابتعاد عن ثقافة المساعدة لمصلحة ثقافة العمل والاعتماد علي النفس». لكن صحيفة الإندبندنت اليسارية قالت إن هذه الإجراءات تندرج في إطار التوجه العام للدول المتطورة التي يجب علي حكوماتها «محاولة فعل المزيد لكن بتكلفة أقل».