لم تعد الحياة ممكنة على هذه الأرض، فالسواد يلفها من أطرافها جميعاً، هذه الحياة التي كانت جنةً ذات يوم، صار الجحيم مكاناً آمناً بالنسبة لها. الحياة الجديدة يقدمها الفنان العراقي سنان حسين في أكثر من معرض شخصي، حيواته طائرة دائماً، لا تحط على أرض محروقة، حتى إن كانت متخيلة، فهذه الكائنات ترفض أن تعيش مع كائناتنا المتوحشة، ترفض أن تكون ضمن قوائم الموت والدمار التي تترسخ كل يوم في وعينا وأمام أعيننا. لذا، يشكّل حسين العوالم بأشكال غرائبية وعجائبية، يعيد إنتاجها من أجل أن تقاوم الانهيارات الكبرى التي يمر بها إنساننا أولاً، والعراقي ثانياً وبشكل خاص. أسر لا تعيش إلا على ذكرياتها، تقف أمام المرآة متأنقة، يمكن من خلال انعكاس صورتها أن تفهم ما الذي يحدث في هذا العالم! تفهم كيف تؤسس لحياة ثانية بعيداً عن التراب المتناثر بعد أن فقدنا الرصيف والشارع معاً، حياة نرسم ملامحها بعيداً عن الرؤوس الخاوية، التي لم تعد تعي أنها غير موجودة في هذا العالم إلا كأرقام. معارض للحياة مع كل معرض جديد يقيمه سنان حسين، يقدم رؤية مختلفة عن المعارض السابقة. هذا ما يمكن ملاحظته في معرضه الذي قام الآن على قاعة الرواق في مدينة المنامة في البحرين، بعنوان غريب جداً على المتلقي العربي، وهو «هيج». ربما تكون هذه الكلمة المعروفة في العراق حالة نادرة يطلقها العراقي مقابل حياة لا وجود لها بالمعنى المعروف. «هيج» كلمة تدل على اللامبالاة وعدم الاكتراث. لكن، لماذا أطلق سنان حسين على معرضه هذا الاسم؟ وهل يريد به اللامبالاة بمعناها العراقي أم معنى آخر؟ في حديث خاص لصحيفتنا، يقول حسين إن لكل دلالة حالة تبدأ بها المشكلة ويخلق التساؤل والتحليل.. فالمنطق واللامنطق يكمن في إشكالية البناء المعرفي لتحليل ماهية الحدث بسبب تراكمات الضياع المعرفي الذي يكون به المجتمع عموماً، والمجتمع العراقي على وجه الخصوص.. ويضيف حسين، أن انحدار الوعي العراقي أدى إلى إيقاع صاخب، خطاب بأصوات مرتفعة، فضلاً عن أن ازدواجية الشكل والمحتوى وسرعة الانفصام لدى المواطن العراقي أديا إلى خلق أساطير وخرافات تنطلق من فكرة الخلود والبداء والطهارة المطلقة، لكن بشكل مقلوب.. وفي محاولة مني لإيجاد معادل موضوعي لهذه الأساطير، بدأت بخلق أرواح تعود بأشكال جديدة، يمكن أن تخرج الإنسان الكامن من عزلته، هذا الإنسان الذي بقي في أعماقنا من دون أن يخرج للحياة، إنه خروج من العزلة نحو عزلة أخرى مفعمة بدوران الروح، علّنا نجد الحقيقة. شخصيات حسين تدرك الوجود بأجساد متحولة، لامبالية، تسير نحو المطلق، فلكل صوت معرفة خاصة وطاقه تسعى لإدراك الحقيقة، فضلاً عن أن لكل شكل دلالة ندرك من خلالها أرواحنا، لكن متى وأين، هذا ما تفسره كل لوحة من لوحات المعرض. غير أن حسين يؤكد أن هناك صورة شخصية تتبعه أين ما يذهب، وهو في الوقت نفسه يتبعها لئلا ننسى أشكالنا الحقيقية. يعيد حسين رسم هذه الشخصية بملامح متعددة يتكون منها التعبير عن أيامنا الخاوية، يبني منطقاً خاصاً لإيجاد شكل مغاير يحيلنا لبناء مفهوم جديد بما له علاقة بفلسفة الجسد، مركزاً في كل عمل على الوجه وتعابيره، من خلال القلق والتناغم والتحاور، ومن ثمَّ استدلال خاص لمفهوم الذات وتعبيراته المختلفة مع كل شخصية. الزمن في أعمال حسين يمر ويبني تراكمات عدّة، مفادها التعبير لكل خط أو تكور أو تقعر يعيد بناء الحياة، ليبرز؛ في ما بعد، بالعيون المحدقة نحو السماء، والرقص والغناء بكلمات لا تبنى بالحروف المعروفة، بل بالألم والحرائق التي لا تنطفئ. عالم غريب هل يهرب سنان حسين بعوالمه الغريبة والعجيبة هذه من واقعنا المؤلم؟ ربما لا يمكنه العيش معنا بكيانه الحقيقي، لكنه مع هذا يرى أن الغرائبية هي حقيقة العالم الخفي الذي نعيش فيه، فليس هناك شيء مدرك ولا ملموس، الكل يعاني من حالة ضياع وهروب من الحقيقة نحو الخيال… «الغرائبية هو بحثي الدائم نحو المعقول لأن المعقوليات الآن لا تمت للحقيقة بأي شيء سوى العبث بمفهوم المجتمع وتغيير منطقة الإدراك الفكري والحسي أيضاً».. أما شخصيات أعمال حسين، فيؤكد أنها ليست غرائبية مقارنة بما هو موجود، بل هي أرواح تشكلت بأشكال تربط المخلوقات جميعاً بشكل واحد، يمكنه إعادة صياغة التكوين الخلقي للبشر والحيوان والنبات معاً، لهذا تجدهم يعيشون بعزلة، في غرفة مغلقة دائماً، فضلاً عن أن هذه الشخصيات تعيش صراعاً داخلياً، دائراً بين الحقيقة واللاحقيقة، كاعتراف بأنها غرائبية ومرفوضة من المجتمع الحقيقي. من جانب آخر يبين حسين أن أعماله ليست هروباً من الواقع المؤلم، بل يفجّر كل هذه المآسي من أجل رؤية العالم على حقيقته… «أعمالي تتبنى إشكاليات المجتمع بشكل ساخر، لأن حياتنا أقرب إلى السخرية، ومن دون هذه السخرية كيف نستطيع تحمّل أخطاء البشر الكبيرة التي غيّرت مجرى الطبيعة من جنة نقية إلى حروب بدأت ولا أحد يستطيع إيقافها.. نحن نعيش في مسرح كبير، لذا أسعى أن أعيد رسم ديكوره وأبطاله الذين يلعبون أدواراً كبرى من أجل تقديم حياة أفضل قبل إسدال الستارة». سرديات مغايرة الزوايا التي يبني بها سنان حسين لوحته ومساراتها، يبني من خلالها سروداً لحياة متخيلة، فعالمه يرتبط بالخرافة والأسطورة، ومن ثمَّ تأتي التمثلات العجائبية لتقدمه للمتلقي وهو يحمل طاقته الشعرية. للرمز في أعمال حسين أرواح من الصعب إحصاؤها، ومع كل لوحة رموزها الخاصة، فضلاً عن أن لكل معرض حكاية أو قصة متخيلة، تربط اللوحات المعروضة معاً بخيط يبني عالم المعرض بشكل متكامل. وفي هذا يقول حسين، إن لكل معرض حكاية أو قصة خيالية «مرتبطة بحاله المجتمع، كما في معرضي السابق «أنت لي يا آدم»، إذ كان المعرض ذا توجه ديني وله علاقة ببداية تكوين الخليقة وارتباطها بمفهوم الزمان والمكان وكيفيه استدلال حاله الجنس الآخر الذي يفرض هيمنته الآن داخل المجتمع الحديث، خصوصاً بعد الاعتراف بزواج المثليين في أمريكا، إذ جاء التساؤل: كيف ومتى وأين.. هذه تساؤلات مجتمع كامل، ولكن بعيدا عن التدقيق، فمن يدقق هو الكاتب والفنان والعالم.. هؤلاء يطرحون الأسئلة على أنفسهم، ومن ثمَّ يعيدون صياغتها وطرحها بمفاهيم لا تبتعد كثيراً عما يفكر به مجتمعهم، يبحث الفنان داخل المرجعيات والكتب، ليجد دلالة ما أو حقيقة توصله للقناعة».. بطريقة كهذه يبدأ حسين بالتساؤل دائماً، يبحث ليجد حقيقة الجواب داخل اللوحة.. «هناك امتداد من معرضي السابق في معرضي هذا، ولكن بمفهوم جديد، أو بقصة أو حكاية ترتبط ببعضها بعضا»، غير أن حسين يؤكد أن الجديد دائماً هو في الطروحات المختلفة التي يقدمها، وهذا الاختلاف مرتبط بمسرحة العمل، وطرح كائناته الخاصة ضمن أدوار متميزة داخل مساحة العمل، ومن ثمَّ فإن الفكرة هي التي تفرض عليه وضع الكتل والشخصيات.. «مثلاً، هناك عمل اسمه شجرة الحياة، تاريخ هذه الشجرة يرجع إلى 500 سنة، ويعتقد أنها ذات الشجرة التي كان كلكامش يبحث عنها في رحلته نحو الخلود، أو لها طبيعة وشكل النبتة نفسها، وبما أن تاريخ البحرين وآثار دلمون لها علاقة بوجود كلكامش، فقد بدأ هنا التساؤل عن كيفيه صياغة العمل وطرحه عن طريق وضع الشجرة كرمز، ومن ثمَّ كيف أدخل شخصياتي كلاعب رئيس في سرد القصة التهكمية؟ هذه الأسئلة يمكن الحصول على إجاباتي عليها من قلب اللوحة نفسها». يوميات اللون اختلف تلوين سنان حسين مع هذا المعرض، من ألوان مفرحة ومرحة وفاتحة إلى ألوان قاتمة تقترب إلى الحرائق في بعض اللوحات.. ما الذي تغير في رؤيته للون؟ وما الذي يريد طرحه الآن؟ مع كل معرض يقيمه حسين تختلف ألوانه وتقنيات مزجها، إلا أنه يشير إلى أن اختلاف التلوين ليس طابعاً يتماشى مع العمل الفني فقط، أو لمجرد حالة العمل الذي يتطلب هذا اللون أو ذاك، أو أي معالجات تخدم مساحات العمل.. ويبين حسين أن عمله سردي بالدرجة الأولى، فهو يقوم ببناء قصة أو حكاية لها علاقة بهزلية المجتمع الذي نعيش فيه، و»بما أن هذا الهزل أو التهكم أصبح يأخذ طابعاً سياسياً، فاللون سوف يأخذ اتجاهاً آخر بالتأكيد… نحن نعيش في عزلة تامة عن المجتمع… خوف، قلق، توتر… الصورة الشخصية أو صورة الجواز الداكن الذي يتبع أفكارنا أينما نذهب، لها علاقة بالإيقاع اللوني للعمل، حتى إن كان للعمل لونه الأحمر أو البرتقالي، فإنه سيكون لوناً داكناً بحسب مفهوم عزلة الأماكن، فجميعها أصبح داكناً أو مغبراً، ومن ثمَّ فإن الأخبار التي تصلنا لا تخرج عن السوداوية، فليس فيها أي بصيص نور يمكن أن يغير من ألوان لوحاتنا». شخصيات مع كل معرض اختلاف ألوان وموتيفات سنان حسين بين معرض وآخر، لا يعبر إلا عن اختلافه هو، شخصية وفنانا، في فكره وثقافته ومعايشته للوقائع، فضلاً عن إعادة بنائه لخياله الذي يقدمه من خلالها أعماله الجديدة. يطرح حسين هذا الاختلاف بطرائق عدّة، منها تطور معارفه وأفكاره، «الرؤية الجديدة هي التي تميز شخصياتي وتميزني، أنا فنان أبحث دائماً في مساحات تحاول أن تجد حقيقة الغياب، لكن بفكر يبحث عن التحديث دائماً».. ومن ثمَّ يلتزم حسين بمفهوم القاعدة التي ترتكز عليها أساسيات الفنان، إذ لا يغيب عنه مفهوم الدهشة أو الحكمة التي تبدأ بالدهشة، ويهمه دائماً أن يبتعد عما قدمه أي فنان أو أي تجربة سبقته، أو أي فنان حاول أن يتأثر به، حينها يهرب حسين من منطقة اشتغاله لمنطقة جديدة، لكي لا يكرر ما يقدمه هو أو من تأثر به في المستقبل.. «أحاول أن أبتعد من منطقتي التي كنت أنا أشتغل فيها، بحيث لا أعيد الموتيفات التي تناقلها الفنانون من أعمالي السابقة، وأبحث عن موتيفات جديدة، حتى إن كانت من داخل الملابس التي نرتديها، من زخرفة أو أشكال هندسية… وبما أن شخصياتي ينتقلون من مكان إلى مكان آخر، وهمهم هو حلول إشكاليات المجتمع بسخرية عالية وتهكم من مجتمع يحاول تدوير حياته كالنفايات، فإني أسعى لتغيير سنان حسين نفسه للخروج من هذه الإشكاليات».