لنهر النيل حضور في كل ما يتعلق بمصر من أدق تفاصيل الحياة المادية إلي نصوص الأدب وكلمات الأغاني، ويعكس ذلك حقيقة ارتباط الحياة في مصر بهذا الشريان الحيوي مرورا بكل العصور والحضارات التي تعاقبت علي أرض مصر وكان قيام أغلبها وازدهاره مرتبطا بالنيل متلونا بلونه. وللنيل اليوم دور محوري في الاقتصاد المصري فمياهه عماد الزراعة المصرية ومصدر جزء مهم من غذاء الشعب المصري وحوله تدور حركة سياحية نشطة كما أن مياهه مصدر لتوليد الطاقة الكهربائية حيث تعتبر محطة توليد السد العالي أكبر محطة مائية لتوليد الكهرباء في افريقيا. إلا أن النيل مصدر الحياة بدأ بفعل تداخل مطامح دول منبعه مع "دسائس" دولية وإقليمية يتحول إلي مدار صراع لاحت نذره كأوضح ما يكون مع إقدام دول المصب مؤخرا علي توقيع اتفاقية في عنتيبي بأوغندا لتوزيع الحصص بالتساوي بين كل دول حوض النيل. وهي اتفاقية تنقض اتفاقيتين سابقتين مستقرتين ومعترف بهما دوليا، ما جعل مراقبين يعتبرون الخطوة "أول طلقة" في حرب مياه حقيقية لما يمثله من مس بالحقوق المكتسبة والتاريخية المصرية السودانية في مياه النيل، محذرين من أن اتفاقية عنتيبي الأخيرة تجر المنطقة إلي حروب مائية بعد أن بات الحديث واضحًا عن فصل مصر والسودان عن بقية دول الحوض ولجوء دول المنابع إلي توقيع منفرد علي اتفاقية لا تتضمن استجابة للمطالب المصرية والسودانية، غير مستبعدين وجود تحريض من دول خارجية كإسرائيل باتجاه تصعيد الأزمة في حوض النيل. وإذ مثلت اتفاقيتا العام 1929 ثم العام 1959 لفترة طويلة مصدر استقرار علاقات دول حوض النيل والتفاهم حول تقاسم مياهه دون مشاكل تذكر فإن الاتفاقيتين ذاتهما أصبحتا ذريعة دول المنابع لمراجعة حجم أنصبة كل الدول والتي تعني أساسا تقليص نصيبي دولتي المصب السودان ومصر بشكل يلحق أبلغ الضرر بمصالحهما. وتعود جذور محاولات تقنين تقاسم مياه النيل وتنظيم مياه روافده إلي سنة 1891 حين أبرمت بريطانيا باسم مصر والسودان اتفاقا مع إيطاليا التي كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت تعهدت بمقتضاه الحكومة الإيطالية بالامتناع عن إقامة أية أعمال أو منشآت علي نهر عطبرة يكون من شأنها التأثير بدرجة محسوسة علي مياه نهر النيل. كذلك تعد سنة 1959 تاريخا فارقا في تنظيم تقاسم مياه النيل حيث شهدت هذه السنة إبرام اتفاقية أملتها الظروف المستجدة متمثلة في استقلال السودان وانفصاله عن مصر أي زيادة عدد دول الحوض وتعد هذه الاتفاقية مكملة لاتفاق 1929 وتميزت بطبيعتها التفصيلية، عاكسة هاجس سد ذرائع الخلاف الممكنة حول مياه النيل. ونصت علي الاعتراف بالحقوق المكتسبة للدولتين علي أساس 48 مليار متر مكعب لمصر سنويا فضلا عن الزيادة التي تحققها المشروعات الجديدة لضبط النهر وذلك مقابل 4 مليارات للسودان. وتتولي مصر بموجب الاتفاقية الجديدة إنشاء السد العالي عند أسوان كأول حلقة من سلسلة مشروعات التخزين المستمرة لمياه النيل، علي أن تتولي السودان إنشاء خزان الروصيرص علي مياه النيل الأزرق، وغيره من المشروعات الضرورية لاستغلال السودان لنصيبه من مياه النهر. وتقوم السودان بالسماح لمصر باستخدام المياه اللازمة للقيام بالمشروعات الضرورية لزيادة عائد النهر علي أن ترد مصر نصيب السودان بعد أن تفي مصر نصيبها في تكاليف المشروع. ويتم إنشاء جهاز مشترك من الدولتين للقيام بأبحاث ودراسات متصلة بضبط النيل وزيادته. وآخر تلك الأسس توحيد وجهتي نظر البلدين عند الدخول في مباحثات أو اتفاقات مع دول حوض النيل. ولعلّ ما نشهده اليوم من تطابق في وجهتي النظر المصرية والسودانية حول المشكل الذي أثارته دول المنابع، ومن تنسيق عال ومشاورات مكثفة بين سلطات البلدين هو صدي لهذا الأساس الأخير. لقد أعادت الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها دول منابع النيل متحدية دولتي المصب إلي الواجهة وبشكل غير مسبوق قضية الخلاف حول مياه النيل وجعلت المراقبين والدارسين يتراوحون بين الماضي بحثا عن جذور الخلاف والمستقبل بحثا في تطوراته وتداعياته الممكنة. ويغوص د. مغاوري شحاتة دياب في مواقف الفرقاء المتراكمة إلي حد الآن في محاولة لفهم مفاعيل الصراع وحيثياته، مشيرا إلي أن اثيوبيا كانت دائمة الرفض للمشاركة في كل ما يتعلق بمفاوضات دول حوض النهر واتخذت موقف المراقب في أغلب الاحيان كما أنها رفضت التوقيع علي الاتفاق الاطاري للمجاري المائية العابرة للحدود والذي تم توقيعه عام 1997 ضمن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة انذاك وحتي عندما وقع الرئيس المصري محمد حسني مبارك اتفاقا مع مليس زيناوي سنة 1993 يتضمن التعاون فيما يتعلق بمياه نهر النيل جمدت اثيوبيا هذا الاتفاق من جانبها. ويشير إلي أن أديس أبابا تقوم بانشاء سدود علي مقاطع من منابع نهر النيل منذ عام 2002 وغالبا تقوم بفرض الامر الواقع من منطلق أنها المساهم الأكبر في حصة مياه نهر النيل وكذلك بدافع ان لديها مناطق في غرب البلاد تحتاج الي مياه النهر كذلك لحاجتها لطاقة كهرومائية. _ أما بالنسبة لدول حوض النيل في منطقة الهضبة الاستوائية وهي رواندا بوروندي الكونغو تنزانيا أوغندا كينيا_، فمواقفها عبر تاريخ النزاع متفاوتة طبقا لظروفها الديموغرافية والاقتصادية والتنموية، فقد تطورت مواقف هذه الدول علي النحو التالي: بدأت تنزانيا في مطالع الستينيات من القرن الماضي رفض الاتفاقات الموقعة بخصوص مياه نهر النيل بما في ذلك الاتفاقات الموقعة بين مصر والسودان. وفي المقابل اتخذت مصر والسودان مبدأ التعاون والتفاوض والتوافق لتحقيق صالح جميع دول حوض النهر في مراحل زمنية وحتي الآن، كما أن مصر قد اضطرت سابقا لتقليص التعاون مع الدول الإفريقية إجمالا ليس عن عمد ولكن عن اضطرار تحت وطأة حرب 1967 وما تلاها وحرب1973 وما تلاها وانغماسها في قضاياها الداخلية وقضايا التنمية الذاتية وكان ذلك دافعا لوجود قوي أخري بمنطقة دول المنابع. ويمضي د. مغاوري شحاتة دياب معتبرا أن مصر كانت دائمة الانتباه الي أهمية مياه نهر النيل فطورت منابعه وساعدت مختلف دوله من منطلق الرغبة في التعاون وتبادل المصالح وليس من منطلق الترضية أو فرض الامر الواقع. والآن بدأت مرحلة جديدة لا تسير الأمور فيها علي نهج منطقي خاصة اذا ما تبدلت المصالح ووجد علي الساحة لاعبون دوليون لا يهمهم بث روح التعاون خاصة اذا كان الامر يتعلق بالمصالح العليا للدول وليس هناك أهم من موضوع المياه. ويذكر الباحث بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية عرضت أكثر من أربعة وعشرين مشروعا ضخما في إثيوبيا منها مشروعات أراض وسدود وكهرباء في بداية الستينيات ردا علي قيام الاتحاد السوفيتي ببناء السد العالي وها هي مشروعات السدود يتم تنفيذها في أثيوبيا الآن بأياد صينية وشركات اسرائيلية وايطالية. إن مختلف التواريخ والمحطات المذكورة آنفا تبين وجود هاجس مستمر بشأن إمكانية اندلاع الخلافات حول مياه النيل ومن ثم كان إغراق الاتفاقيات المبرمة بشأنها في التفاصيل الإجرائية والتحديدات الرقمية للأنصبة، وخصوصا اتفاقيتي 1929 و1959 ومع ذلك وقع المحظور وأطل الخلاف برأسه وبحدة وصلت هذه المرة حد الحديث عن إمكانية اندلاع "حرب مائية". وعلي عكس ما تراه دولتا المصب السودان ومصر تري دول المنابع أن الاتفاقيتين السابقتين هما سبب الخلاف بما حملتاه من "إجحاف" في تقسيم الأنصبة حسب رأي دول المنابع التي تعتبر اتفاقية 1929 تحديدا اتفاقية بريطانية أساسا راعت مصالح بريطانيا التي كانت منتدبة علي مصر والسودان وتطمع في تأبيد استعمارها ولم تراع غير مصالحها لاسيما حاجة الصناعة التي كانت آنذاك تعمل علي تركيزها بالبلدين إلي كم كبير من المياه ولا سيما زراعة القطن ومشاريع تحويله. وتقول دول المنابع اليوم إن ظروفا كثيرة استجدت لجهة عدد السكان وتنامي الطموحات التنموية وازدياد قيمة المياه في ظل الظروف المناخية المتغيرة الأمر الذي يحتم في نظرها مراجعة حصص توزيع مياه النيل. وبغض النظر عن رفض السودان ومصر لهذا الطرح، توجد مشكلة واقعية تتمثل في أن دولتي المصب عدّلتا الكثير من واقعهما ومن برامجهما التنموية ومشاريعهما الاقتصادية وفق الحصتين اللتين تأتت لهما بموجب الاتفاقيات السابقة ومن ثم يغدو من الخطورة بمكان إلغاء كل ذلك وإعادة ضبطه علي حصتين أقل بكثير مما كان متوافرا، وهو الأمر الذي يفسر قول مسئولين سودانيين ومصريين عن الأزمة الجديدة حول مياه النيل إنها: "مسألة حياة أو موت".