مع نجاح طهران في استدراج الدول الكبري لجولات جديدة من المفاوضات غير مضمونة النتائج حول برنامجها النووي يطل برأسه التساؤل حول مصير تلك المفاوضات وما يمكن أن يتمخض عنه فشلها في وضع نهاية لمخاوف المجتمع الدولي من برنامج إيران النووي . وتقتضي الإجابة علي هذا التساؤل تحليل مواقف الأطراف الدولية المختلفة إزاء إستراتيجية إيران النووية خلال المرحلة المقبلة .فلقد شهدت الأسابيع القليلة المنقضية ميلا غربيا لإتخاذ إجراءات عقابية حيال طهران علي شاكلة تغليظ العقوبات المزمنة المفروضة عليها،خاصة بعد التقارب والتنسيق الأمريكي الروسي بشأن محاصرة إيران علي خلفية الصفقة التي أبرمها الجانبان والتي التزمت بموجبها واشنطن التخلي عن إقامة محطات لمشروع الدرع الصاروخية في بولندا و التشيك مقابل التزام موسكو بوقف تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة إلي طهران خصوصا أنظمة الدفاع الصاروخي المضاد للطيران "إس-300" ،والذي يمكن أن ينشر في محيط منشآت نووية إيرانية، لأنه بدون الغطاء الروسي سيكون بين إيران وإنتاج السلاح النووي أمد بعيد"، فضلا عن عدم تعويق أية إجراءات عقابية ضدها في مجلس الأمن الدولي لقاء تجميد عملية نشر محطات رادارية لمشروع الدرع الصاروخي الأمريكي في وسط وشرق أوروبا .ونتيجة لذلك، أصغت روسيا إلي حملة الضغوط الغربية علي إيران، حيث عبر الرئيس ديمتري ميدفيديف عن قلقه من التطورات الجديدة التي لحقت ببرنامج إيران النووي ملوحا باللجوء إلي خيارات أخري ضد طهران إذا لم تتعاون مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي. وقال ميدفيديف للصحفيين علي هامش القمة الاقتصادية لمجموعة العشرين بمدينة بيتسبرج الأميريكية إن كشف طهران عن منشأة نووية سرية سبب قلقا لكل المشاركين في القمة بما في ذلك روسيا، وطالب إيران بإبداء أكبر قدر من التعاون وتقديم دليل مقنع علي التزامها بتطوير برامج نووية سلمية في اجتماعاتها مع القوي الست الكبري في جنيف مطلع أكتوبر الجاري. وما بين مراوغة إيرانية ونزوع غربي حذر ومتردد لتصعيد محسوب حيال طهران ربما يقتصر علي تشديد العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليها ،يطل برأسه المتغير الإسرائيلي كأحد أهم العوامل المؤثرة في تطور الأزمة النووية الإيرانية .فعلي الجميع أن يعي جيدا دور تل أبيب في تسخين التصعيد الغربي الواضح حيال طهران مؤخرا علي هامش اجتماعات نيويورك وبتيسبرج كما لو كان موافقة من قبل أوباما وقادة الغرب علي مطلب نتنياهو بإعطاء البرنامج النووي الإيرانية أولوية كشرط لاستئناف المفاوضات، فقد اشترط في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس 24-9-2009 علي المجتمع الدولي أن يقوم بعمل لوقف البرنامج النووي لإيران وما أسماه بالأصولية الإسلامية في مقابل أن تتحمل حكومته "مخاطر" إحلال السلام مع الجانب الفلسطيني الذي اشترط عليه بدوره الإقرار بإسرائيل كدولة يهودية خالصة.ففي ذات السياق،صعدت الدول الغربية الكبري ضغوطها علي إيران حيث توعدها رؤساء كل من الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني جوردون براون علي هامش القمة الاقتصادية لمجموعة العشرين بمدينة بيتسبرج الأمريكية بعقوبات جديدة ،معتبرين أن إعلانها بناء منشأة نووية جديدة يشكل تحديا لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. علاوة علي ذلك، تبقي احتمالات إقدام إسرائيل علي توجيه ضربة عسكرية منفردة للمنشآت النووية الإيرانية قائمة بوصفها أحد أكبر فرص التصعيد العسكري ضد إيران في أزمتها النووية مع المجتمع الدولي .فعلي الرغم من جنوح إسرائيل منذ سنوات للتلويح بإمكانية إقدامها علي توجيه ضربة عسكرية إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية ،يكتسب الجدل حول هذا الأمر زخما هائلا هذه الأيام بعد صدمة حكومة نتنياهو في حزمة المقترحات التي أعلنتها طهران مؤخرا بشأن مستقبل برنامجها النووي وإخفاق مساعي الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الماضي في إيجاد حل دبلوماسي يضع نهاية لطموحات إيران النووية العسكرية،ثم نجاح طهران في جر الغرب إلي مفاوضات جديدة في جنيف مع بداية الشهر الجاري لا تري إسرائيل فيها بارقة أمل. ويمكن الإدعاء بأن تطورات الأزمة النووية الإيرانية بالوتيرة الحالية تحمل في طياتها مؤشرات ودلائل تشي بأن إقدام إسرائيل ،من جانب واحد ومن دون الرجوع لواشنطن ،علي توجيه ضربة عسكرية إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية ، ربما بدا وشيكا،برغم ادعاء تسريبات أمريكية إمكانية إمتداد المساعي الدبلوماسية الدولية لتسوية الأزمة النووية الإيرانية سياسيا حتي نهاية العام الجاري ،إذ كشف نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن أنه عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واشنطن في الربيع الماضي حصل منه علي موافقة علي إعطاء سياسة الرئيس أوباما الخاصة بالحوار مع إيران مهلة حتي نهاية العام الحالي ،علي أن يكون لإسرائيل مطلق الحرية في التعامل بالقوة العسكرية مع التهديد الإيراني المحتمل لوجودها إذا ما دعت الضرورة إلي ذلك بعد انقضاء هذه المهلة. فمن جانبه،أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أنه علي الرغم من أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل تختلفان أحيانا في هذا الشأن ،فإن القرار يكون في نهاية المطاف لإسرائيل،ما يحمل في طياته إشارات إلي أن الأخيرة لن تتردد في القيام بعمل عسكري منفرد ضد إيران دون الرجوع لواشنطن حالة ما إذا إرتأت أن دواعي أمنها القومي تستوجب ذلك غير مكترثة بالحسابات الأمريكية في هذا الخصوص، لا سيما بعد أن سقط الرئيس الأمريكي باراك أوباما فريسة سهلة في براثن اللوبي اليهودي الأمريكي علي خلفية تعثره في التعاطي مع تحديات داخلية عديدة كتمرير برنامجه لإصلاح التأمين الصحي وإيقاف أرقام البطالة المتصاعدة يوميا ومعالجة الانكماش الاقتصادي الخانق وذلك بالتوازي مع إخفاقات طالت سياسته الخارجية فيما يخص التعامل مع التحدي النووي الكوري الشمالي إلي جانب الفشل المدوي في أفغانستان علاوة علي تعثره في إحياء مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل،وهي الأجواء التي تجعل يد أوباما مغلولة في كبح جماح أي تحرك عسكري إسرائيلي ،قد لا يراه مناسبا من حيث المبدأ أو حتي التوقيت،حيال إيران . ولعل السوابق التاريخية للتعاطي الإسرائيلي مع مثل هذا النوع من المواقف تعزز من هذا الطرح. فعلي سبيل المثال_,_لم تستأذن إسرائيل الولاياتالمتحدة أولا حينما قامت المقاتلات الإسرائيلية بالإغارة علي المفاعلات النووية في العراق يوم السابع من يونيو عام_1981_ وبعد يوم واحد فقط من اجتماع رئيس الوزراء الإسرائيلي أنذاك مناحم بيجين مع الرئيس المصري الراحل انور السادات ،وبرغم ذلك لم يكن في وسع الرئيس الأمريكي وقتئذ رونالد ريجان سوي إدانة الحادث مكتفيا بالقول إن هناك بعض الخيارات الأخري التي كان ينبغي علي إسرائيل وضعها في الحسبان إذا في الوقت الذي لم يخف بيجين نشوته عن العالم بعد نجاح العملية الإسرائيلية_,_ مؤكدا للصحفيين وهو في حالة من الزهو، أنه وضع نموذجا يحتذي لأي رئيس وزراء إسرائيلي قادم، بحيث يتصرف علي ذات النحو في أي ظروف مشابهة.كذلك،و في شهر سبتمبر من العام 2007_,_ومن دون سابق إستئذان من واشنطن، أغارت الطائرات الإسرائيلية علي موقع سوري ادعت تل أبيب أنه مفاعل لتخصيب البلوتونيوم وشأنه شأن هجومها علي المنشآت النووية العراقية ،لم يخلف العدوان علي الموقع السوري آثارا سلبية ملموسة أو عميقة علي أواصر الصداقة التي تجمع تل أبيب وواشنطن. وجاء قبول واشنطن والدول الكبري للتفاوض مع طهران مجددا برغم عدم ثقة تلك الدول في نواياها ، ليعطي زخما لنوايا تل أبيب التصعيدية المنفردة حيال طهران خصوصا بعد أن تنامت شكوكها في قدرة سياسة واشنطن المزدوجة المستندة إلي كثير من الترغيب وقليل من الترهيب ،علي ثني طهران عن طموحاتها النووية ،إلي الحد الذي أوحي لدوائر سياسية وأمنية إسرائيلية بأن واشنطن بصدد الاستسلام لامتلاك طهران للسلاح النووي وذلك بعد أن شرعت في تقديم مبادرات من شأنها التعاطي مع هذا الأمر وليس الحيلولة دون حدوثه. حيث سبق لإدارة بوش الإبن أن قدمت عروضا لإسرائيل وبعض الدول العربية بشأن وضعها تحت المظلة النووية الأمريكية لحمايتها من أي تهديد نووي إيراني محتمل،وهي العروض التي أعادت إدارة أوباما عرضها مؤخرا عن طريق وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس ، الأمر الذي فسره دان مريدور نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي والمكلف بشئون الاستخبارات والطاقة الذرية ،بأنه استعداد أمريكي للقبول بامتلاك طهران للسلاح النووي،خصوصا بعد أن أكدت تقارير أمنية أمريكية وإسرائيلية أن إيران ، التي تحولت إلي دولة عتبة نووية في العام 2007 ،أصبحت علي وشك تصنيع قنبلة نووية واحدة علي الأقل في العام المقبل.