أين أمريكا الشعب.. من أمريكا الرئيس؟ ولماذا سمح الشعب الأمريكي لإدارة يجلس علي قمتها مثل هذا الرئيس الذي استأثر بكل "العبر" والمثالب والسلبيات أن تتلاعب بمصيره علي هذا النحو المأساوي وكأننا في دولة من دول العالم الثالث وليس في أقوي دولة في العالم؟! السؤال طرحه الكاتب الكبير راجي عنايت في كتابه الفريد "أمريكا إلي أين؟!" الصادر حديثاً عن دار "نهضة مصر"، وهي دار نشر تحمل نفس اسم جريدة "نهضة مصر" لكن ليست هناك علاقة بين الاثنتين. أما الإجابة فهي أكثر إثارة من السؤال، خاصة وأن راجي عنايت عكف علي البحث عنها علي "أقلام الأمريكيين الشرفاء في كل مجال" ولم يخترعها من عندياته. وكانت نتيجة هذا الإبحار مذهلة. وإليكم بعض العينات: ستيفن سولدز المحلل النفسي الأمريكي ومؤسس جمعية "محللون نفسيون من أجل السلام والعدالة" يقول: "الشعب الأمريكي يتخبط في مجموعة من النوازع المتوالدة -رغم تناقضها- مثل النرجسية الاجتماعية، المصحوبة بمشاعر الخوف والخجل والعدوانية.. ومثل الشعور المرضي بالتفوق الذي جسده ريجان عندما اعتبر أمريكا "المدينة المتلألئة فوق التل" المصحوب بأحاسيس غاية من عدم الأمان والخوف.. ومثل الميل الدائم للبحث عن عدو خارجي يجسد دور الشر الذي لا تجده إلا في الآخر..". ويضيف سولدز: "الأمريكيون، شأنهم شأن رئيسنا، موصومون بنقص المعرفة، ونقص الاهتمام بآراء شعوب البلاد الأخري. وفي مجال عملنا كمحللين نفسيين نطلق علي هؤلاء الذين يفتقدون التواصل والتعاطف مع الآخرين "النرجسية"، وهو يعني مرض عشق الذات". وإذا غادرنا مجال التحليل النفسي ودخلنا في المجال الاجتماعي يضعنا راجي عنايت وجهاً لوجه أمام دراسة "الظلام الأبدي للعقل الأمريكي" للكاتب والناشط الأمريكي مانويل فلنزويلاس. تقول هذه الدراسة العجيبة إن "الظلمة التي أطبقت علي الامبراطورية -يقصد أمريكا- وشعبها، قد تزايدت خلال الخمسين سنة الأخيرة، بفضل التطور المتواصل لشاشة التليفزيون والأذرع الأخطبوطية دائمة الامتداد لإعلام عالم المال والأعمال. ويستطرد قائلاً: إن العقل الجمعي الأمريكي تبددت قوته وقدراته علي مدار العقود القليلة الأخيرة وانحط متحولاً إلي قطعة من الأسفنج، مستعدة لتقبل الإيمان بأي شيء وكل شيء مزروع علي شاشة التليفزيون التي أصبحت تقوم الآن بوظيفة العقل.. فالتليفزيون منذ مولدنا يصبح أبانا بالتبني، ومستشارنا الاستهلاكي والساحر المادي الذي يقودنا بضوئه المنوم وسط ضباب السيطرة الرأسمالية الكثيف.. يدربنا من المولد كيف نصبح مستهلكين طفيليين جيدين، ممطراً عقلنا الذي لم يكتمل نموه بالخيالات وبأساليب التلاعب النفسي مغرقاً عقولنا البكر بومضات صور سريعة متدفقة لم يسبق أن تعرض لها عقل بشري في دور التكوين.. وبهذا كله يبدأ التليفزيون في تشويه رؤيتنا للواقع". ومن المهد إلي اللحد يمارس التليفزيون تنشيط سحر المؤسسات، مساعداً علي جعل أمريكا أكثر المجتمعات استهلاكاً، ومادية، وشراهة، وتبديداً، من بين المجتمعات التي ظهرت علي الأرض.. نحن متخمون بالطعام، ونبدد ليس مثل أحد، ونستهلك كما لو أن حياتنا تعتمد علي ذلك، ونلوث البيئة بتأثيرات مدمرة، وكالجراد الوبائي نلتهم الموارد الطبيعية لكوكبنا، غير آبهين لصالح المحيطات والغابات وستة مليارات من البشر -غيرنا- يقاسموننا هذا الكوكب الصغير". ويستطرد الكاتب والمفكر الأمريكي فلنزويلاس قائلاً: "عطشنا للبترول لا يمكن أن نرويه سوي بالحروب والخراب والموت، وشهيتنا المفتوحة للسلع والعمالة الرخيصة تقودنا إلي استعباد مليارات البشر علي اتساع العالم. فالأمريكيون يكونون 4% من سكان العالم، ومع ذلك يساهمون بما يصل إلي 25% من ثاني أكسيد الكربون الملوث للغلاف الجوي. ومعظم ال 290 مليون أمريكي يؤمن أن سطح هذه الأرض بما عليها من بشر رصدها الله ملك يمينهم لخدمة أمريكا.. الدولة الوحيدة التي يحق لها أن تملي أوامرها علي جميع الآخرين. ويضع فلنزويلاس يده علي أغرب مفارقة أمريكية حيث "يتوقع الإنسان من دولة واسعة الثراء، تملك موارد هائلة، وتنوعاً واسعاً من البشر.. أن تكون قد قضت علي الجهل والأمية، ويعم فيها الذكاء وتسود فيها المعارف العالمية.. لكن الوضع في أمريكا علي النقيض من ذلك تماماً.. فنظامنا التعليمي يعاني ضعف الانفاق، وعدم الكفاءة، وهو أشبه بنوعية التعليم التي يمكن أن يتوقعها الفرد في دولة متخلفة في أفريقيا، حيث ما يخص الفرد من ميزانية التعليم لا يتجاوز 8 دولارات في السنة، فضلاً عن أنه يستعبد أطفالنا ويبرمج صغارنا أن يبقوا دائماً بين السطور، وأن يصبحوا مسلوبي الإرادة، تنسحق أفكارهم تحت وطأة المؤسسات وما تفرضه الدولة، فالكتب الدراسية والمناهج تزيف التاريخ الأمريكي، ولا تنقل إلي الطلبة حقيقة ما مارسته الدولة من إرهاب ومذابح وإبادة عرقية وعبودية وحروب وجرائم ضد الإنسانية.. وبالنتيجة كان التعليم الأمريكي -ولا يزال- يسعي إلي خلق بشر آليين، لا يفكرون، تدربوا علي الانصياع لأوامر الدولة وأعراف السلطة.. وأطفال اليوم تجدهم مستعدين ومؤهلين للإجابة علي الاختبارات القياسية، بينما هم يحرمون من النشاطات الفنية الليبرالية المهمة، التي يمكن أن تزرع فيهم التفكير التحليلي، والابتكار، والأفكار التي تحض علي البحث والاستقصاء.. وفي ظل عقول لا تفكر ولا تسأل، تصبح القلة الممسكة بأعنَّة مجتمعنا أكثر حرية في زرع المزيد من أدوات السيطرة والتحكم علي حساب تدهور وهبوط الجماهير.. عندما يجهل الشعب ما يدبر له، يتحقق النجاح للقوي الحاكمة، في إشاعة الظلمة المطبقة في العقل الأمريكي.. وهذه هي حقيقتنا اليوم..". هل هذا معقول؟! هل هذه هي أمريكا التي ترتعد فرائص الحكومات أمامها؟! هل هذه هي الدولة التي تنفرد بقيادة النظام العالمي وتقرر مصير البشرية؟! إنها أمريكا أخري.. غير التي تم تسويقها لنا منذ سنوات وعقود. وهذه الصورة عن أمريكا الأخري لم يختلقها راجي عنايت بل رسم ملامحها بالاستناد إلي شهادات أمريكية مكتوبة بأقلام أمريكية علي أوراق أمريكية. وهي صورة مخيفة..لكنها تفسر لنا -إلي حد بعيد- كيف استطاعت عصابة المحافظين الجدد أن تقنع الشعب الأمريكي ببرنامجها الامبراطوري وتجعله يمضي وراءها معصوب العينين.. حتي الآن علي الأقل. وللحديث بقية..