في المقال السابق بدأنا الامساك ببدايات الخيط الذي ألقاه الكاتب الكبير راجي عنايت في معرض محاولته غير التقليدية للاجابة علي السؤال الجوهري: أمريكا إلي أين؟ ورأينا أن التفسير الرئيسي الذي يقدمه راجي عنايت لما تثيره سياسات إدارة الرئيس جورج بوش من علامات استفهام وعلامات تعجب يتلخص أساسًا في أن هذه السياسات المثيرة للدهشة تعبر عن مقاومة "الرأسمالية التقليدية" المرتبطة بتراث الصالح وفيه ثورة المداخن - أي الثورة الصناعية - لمتطلبات الثورة الثالثة، أي ثورة المعلومات، سواء في مجال السياسة أو مجال الاقتصاد. ويضيف أن الذي يحدث اليوم في الولاياتالمتحدة ليس جديدا، لكن الخلاف بين ما كان يحدث دائمًا في الولاياتالمتحدة وبين ما يحدث حاليا هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع، غير أن التحول الأكبر في حياة البشر إلي مجتمع المعلومات هو الذي يضخم التناقضات التي يقوم عليها النظام الأمريكي. والسؤال الذي تولده هذه المفارقة هو: كيف رضخت الولاياتالمتحدة لذلك المخطط الجهنمي الذي رسمت أبعاده جماعة من الأصوليين المسيحيين واليهود، والتي أطلقت علي نفسها اسم "المحافظون الجدد"؟ كيف أتيح لهذه العصابة أن يتضخم نفوذها الذي بدأ منذ أواخر أيام الرئيس السابق رونالد ريجان؟ إجابة راجي عنايت هي أن الفضل في ذلك يعود إلي نجاح هذه "العصابة" في اصطياد أنسب شخصية في التاريخ الأمريكي المعاصر جورج دبليو بوش. وفي فصل كامل من كتابه المهم يحاول راجي عنايت التدليل علي هذه الفرضية عن طريق رسم بورتريه للملامح النفسية والفكرية للرئيس بوش الابن، وهو بورتريه يجعلنا نؤمن بأن بوش "لا يريد - ولا يستطيع - أن يقوم بالعمل الجاد، الذي يجب علي المدير الحقيقي أن يقوم به من أجل إدارة أكبر مشروع عالمي". وأن هذا الرئيس الذي يتمتع بالكثير من الخصائص السلبية كان الشخص الأنسب الذي نجح ديك تشيني "في فرض معظم سياساته ورجاله عليه منذ بداية ولايته الأولي، ونجح في إقناعه بأنه مبعوث العناية الالهية لشعوب العالم، وأن الشعوب لا تعرف مصلحتها، وعليها أن تمتنع عن ابداء تململها مما تقوم به الادارة الأمريكية من غزو واحتلال وتقتيل وتآمر وتأليب واغتيال فهذه هي التضحيات الضرورية التي ستحول البلاد إلي نعيم منشود". وفي كل ما يفعله بوش لا يتجاوز المخطط الذي رسمه له ديك تشيني وأفراد عصابته وقد استطاع تشيني أن يزرع أفراد العصابة الرجعيين الجدد في أكثر المواقع حساسية في الادارة الأمريكية: رامسفيلد في البنتاجون، وكونداليزا رايس في وزارة الخارجية في مكان كولن باول الخارج عن طاعة هذه العصابة، وينجربونتي سفاح هندوراس ومهندس جماعات القتل هناك نجح في زرع ثمار الفتنة في العراق عندما عمل سفيرا لأمريكا في بغداد، وقبل أن توكل إليه أعلي سلطة استخبارات في البلاد بعد أن اثبتت المخابرات المركزية الأمريكية انها لم تصل إلي المستوي المطلوب في تلفيق التهم الكاذبة لصدام حسين، ثم اختيار المحامي الخاص لبوش ألبرتو جونزاليس للعمل كنائب عام أمريكي رغم تاريخه الذي يقول بقبوله استخدام وتبرير التعذيب في سبيل تحقيق الأهداف المريبة التي تسعي إليها العصابة الحاكمة دون مشاكل كالتي ثارت بسبب سجن أبو غريب في العراق أو معتقل جوانتانامو في كوبا. غير أن محاولات الاستيلاء علي مقادير الشعب الأمريكي لم تقف عند هذا الحد فانتقلت أحلام ومطامع ديك تشيني إلي المستوي العالمي وهو ما عبرت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" بقولها: "كما كان اختيار جون بولتون كسفير للولايات المتحدة لدي الأممالمتحدة جاء اختيار وولفويتز رئيسًا للبنك الدولي كصفعة للمجتمع العالمي". زاوية ثانية يلفت إليها راجي عنايت خلاصتها أن فهم ما يفعله بوش يحتاج منا إلي أن نفهم شيئًا أساسيًا عن عائلة بوش، وهو انها تمثل تحالف ثلاث مجموعات قوي عظمي متأصلة من الصفوة الأمريكية، هي قوي البترول والسلاح والاستثمارات هذه المجموعات تضع مصالحها الخاصة، وما تحققه من ثراء ومزايا، في كفة تضاهي كفة مصالح الولاياتالمتحدة والعالم ككل. وهم يسعون إلي تلك المصالح بكل سلاح تحت أيديهم، بما في ذلك الحرب، والتعذيب، والخديعة والفساد. وهذا ليس رأي راجي عنايت فقط وإنما هو ينقله عن الكاتب الأمريكي كريس فلويد الذي يضيف قائلاً عن هذه الأسرة العجيبة.. الديمقراطية لا تعني لديهم شيئًا، ولا حتي في داخل بلادهم كما شاهدته سنة 2000، فالقوانين وظيفتها أن تبقي القطيع العام في الصف الخاص به باعتبار انه لا ينتسب إلي الصفوة الأمر الذي صرح به المحامون التابعون لبوش في مذكراتهم صراحة، إنه يمارس "سلطته الشرعية" في "تجنيب القانون" وانه يأمر بأي جريمة باسم "الحرب علي الارهاب". ولتثبيت هذا الوجود المسيطر لأمريكخا في العراق، وضمان دوامه، كان الأمر يحتاج إلي: حكومة عميلة "قوية"، وهو ما يسعي إليه بوش حتي قبل أن يبدأ الغزو. قواعد عسكرية آمنة.. وقد انتهي الجيش الأمريكي من تجهيز 14 قاعدة عسكرية أمريكية قوية لتكون بمثابة نقط ارتكاز دائمة للولايات المتحدة في العراق والمنطقة. سفارة تكون بمثابة البيت الأبيض الأمريكي في العراق، وقد تحقق ذلك منذ أن كان نيجروبونتي سفيرًا لأمريكا في العراق، فأقامت الولاياتالمتحدة أضخم وأوسع سفارة أمريكية في بغداد تعج بالعملاء. والزاوية الأخيرة التي يلفت راجي عنايت النظر إليها فيما يتعلق بالرئيس بوش هي الخلط بين الدين والسياسة في عقله. وقد عبر بوش نفسه عن هذا الخلط بقوله "أشعر أن الله يريدني أن ارشح نفسي للرئاسة.. لا استطيع أن افسر ذلك لكني أشعر أن بلادي ستحتاجني سيحدث شئ ما.. أعلم أن هذا لن يكون سهلا علي شخصي، أو علي اسرتي لكن الله يريدني أن افعل ذلك". ويعلق أستاذ العلوم السياسية والكاتب المعروف بوب فيتراكس علي هذا بالتساؤل: "متي كان آخر مرة حكم دولة غربية قائد تسيطر عليه هذه الأفكار؟ "وهو يشير هنا إلي عبارة: أن الله معنا" إذا اجبت انه أدولفت هتلر، وألمانيا النازية، فأنت مصيب، كل من بوش وهتلر يؤمن أن الله قد اختاره لقيادة بلده، لقد أعلن هتلر بجرأة قبل أن يشرع في تنفيذ خطته للحرب الوقائية ضد أوروبا كلها: اريد أن اشكر العناية الالهية لاختياري من بين جميع البشر، فسمح لي بشن هذه الحرب من أجل ألمانيا..". وهذا هو تقريبًا نفس ما قاله بوش الذي نقلت عنه ال "واشنطن بوست" قوله في يونيو 2003: "الله قال لي اضرب القاعدة فضربتهم، ثم أمرني بأن اضرب صدام، وهو ما فعلته، والآن أنا مصمم علي حل مشكلة الشرق الأوسط". مثل هذه التصريحات عقب عليها كريسي فلويد قائلاً: لا شئ مما يفعله بوش يمكن مهاجمته علي أساس أخلاقي مهما بدا شريرا الآن جميع تحركاته تجري بتوجيه من الله بإمكانه أن يعري الحقائق، ويقهر الفقراء، ويمجد الأغنياء، ويفسد الأرض، ويتجاهل القانون، ويقتل الأطفال دون تردد، بدون لحظة شك قصيرة أو محاولة تأمل، لأنه يؤمن حقا أن الله يربض في جمجمته، ويلقنه ما يجب عليه أن يفعله". تصوروا.. مثل هذا الشخص يرأس أكبر وأقوي دولة في العالم! وللحديث بقية.. [email protected]