التعصبات هي أفكار ومعتقدات تراكمت في ذهن الإنسان فأصبح يسلم بصحتها ويتخذها أساسا لأحكامه مع رفض أي دليل يثبت خطأها.. ويعتمد التعصب دائما علي التمسك بالمألوف دون إعمال الفكر، وبالتالي رفض غيره لمجرد أن قبوله قد يتطلب تعديلا في المعايير التي يبني علي أساسها أحكامه، أي أن التعصب هو نوع من الهروب ورفض مواجهة الواقع المتغير دائما، وبهذا المعني يصبح التعصب شرا يدعم قوي الظلم ويزيد من سيطرة الجهل بل ويفسد المعرفة التي هي أساس الحكم علي الأمور، فإذا توافرت كل هذا السلبيات فإنها بلاشك تقوض أركان المجتمع، فبقدر ما يحمل المرء من تعصب بقدر ما يضيق نطاق تفكيره أو ينغلق فتنعدم لديه حرية التفكير وبالتالي القدرة علي الحكم الصحيح. ولولا هذه التعصبات لما عرف الإنسان كل هذه الحروب والانقسامات والشرور. فلا يزال التعصب بجميع أنواعه يسيطر علي الكثير من المجتمعات الإنسانية فيسبب الكراهية ويزيد الأحقاد بين أبناء المجتمع الواحد، وهو يستشري الآن في مجتمعنا ويفرض نفسه علي أذهاننا نظرا لما يسفر عنه من تداعيات تهددنا بفقد أهم ما نملك من ثروات فنية متمثلة في أعمال النحت العظيمة التي تملأ متاحفنا، فأصبح التعصب بكل أنواعه يزيد العداوة بين طوائف المجتمع بل ويخلق دائما عداوات جديدة نحن بلاشك في غني عنها، فأصبحنا نضطر آسفين إلي النظر إلي نصف الكوب الفارغ ولا نجد في الجزء المملوء منه ما يدعونا إلي التفاؤل خاصة أن هذا النصف المملوء تهتز وتتأرجح فيه المياه بشدة مثل أمواج البحر العاتية ليصبح علينا جميعا أن نبذل كل الجهد وبإخلاص لكي نجعل المياه تستقر في الجزء المملوء من الكوب حتي نحمي أنفسنا من الدخول في النفق المظلم الذي نري مثالا له في الدول المجاورة. فما أحوجنا اليوم إلي نشر ثقافة نبذ التعصبات خاصة التعصب الديني الذي يجد له تربة خصبة في مجتمعنا.. إن نشر ثقافة نبذ التعصب هي المخرج الوحيد مما أصبحنا نعاني منه من تكفير بالجملة حتي أصبح نصف المجتمع يكفر النصف الآخر وكل منهما يظن أنه علي حق والآخر علي باطل سواء بين أتباع الدين الواحد أو بين أتباع الديانات والعقائد المختلفة وأصبح الشغل الشاغل هو إصدار حكم علي الآخر بإيمانه أو بكفره، وعلي أساس هذا الحكم تجري كل المعاملات الإنسانية. أتعجب وتملؤني الدهشة عندما أتأمل ما يجري فأجدني أتساءل: من الذي أعطي للذين يصدرون أحكاما بتكفير الآخرين هذا الحق؟! إن الله وحده هو الذي يعلم مافي نفوس البشر وبالتالي فلا يجوز لأي إنسان مهما علا أو دنا مقامه الدنيوي أن يعطي لنفسه هذا الحق خاصة إذا كان هؤلاء الاخرون يعلنون إيمانهم بالله، فالفنانون التشكيليون يدركون ربما أكثر من غيرهم نعم الخالق العديدة ذلك لأنهم دائما يتأملون في مخلوقات الله ويدرسون تفاصيلها من جماد ونبات وحيوان وإنسان وذلك حتي يمكنهم استنباط القيم الجمالية الجديدة الظاهرة أو المخزونة في هذه المخلوقات.. لو تفكر هؤلاء المكفرون قليلا لاكتشفوا أن تكفيرهم للآخرين لن يكون سببا في تحولهم إلي الإيمان إذا كانوا حقا كافرين!! وإنما هو سبب فقط في تأجج نار الصراع الذي يفضي إلي نشر الفتن بين أتباع الدين الواحد لاختلاف المذاهب أو حتي الرؤي أو بين أتباع الأديان المختلفة.. كيف لا يدرك من يلقون بمزيد من الحطب في أتون النار أن سلوك الإنسان هو خير دليل علي ما يؤمن به، فليس الفضل لمن يتحدث عن المبادئ والقيم الإنسانية الرفيعة، ولكن الفضل لمن يستطيع أن يسلك في الحياة وفقا لتلك القيم وليس من يدعو إلي الكراهية والتعصب. إن العالم كله يشهد الآن انهيارا في نظاميه الاجتماعي والخلقي فانتشرت الشرور وأوجه الفساد المختلفة بسرعة أقوي من القدرة علي الاستيعاب السوي نتيجة لانفتاح المجتمع فجأة علي كل المجتمعات الإنسانية التي تختلف عنه شكلا ومضمونا دون وجود أنظمة جديدة تحقق اتزان المجتمع وفقا لمعايير الحياة الجديدة التي اختلفت بالكلية عما سبق مما أصاب الكثير بحالة من التوتر والقلق والاهتزاز تمنعهم من التفكير المنهجيالسليم فتشبثوا ببعض الأفكار السلفية دون اقتناع حقيقي بها ظنا منهم أنها تحفظهم من الانهيار. إن هذا التقدم العلمي المذهل كان ولابد أن يواكبه رقي أخلاقي وسلوكي ليحفظ اتزان الإنسان لأن طبيعة الإنسان روحية في أساسها ولو تعرض هذا الاتزان بين الماديات والروحانيات إلي خلل ما، يحدث ما نراه اليوم من فوضي فكرية وتبلد في الإحساس يعطي لصاحبه قوة تمكنه من الإتيان بفعل عنيف عند أي بادرة فكر تحلل له ذلك حتي وإن وقع تحت طائلة القانون وهو ما حدث مع الذين حطموا التماثيل وأزالوا اللوحات، بيد أن التقدم أو الرقي الأخلاقي والسلوكي لا يتأتي إلا بالتعمق في الروحانيات التي تخص علاقة الإنسان بربه والتي بلاشك تنعكس بالإيجاب علي علاقته بالآخرين، وليس التمسك بالفهم السطحي السريع والاعتماد علي الآخرين في ذلك دون إعمال الفكر. إننا لن نخرج من هذه الأزمات التي تطفو دائما علي السطح إلا بالجدية والتعقل في القول فعندما نتحدث عن أهمية أو ضرورة أو حتمية قبول الآخر الأجنبي عنا، علينا أولا أن نكون متأكدين من قبول كل منا للآخر في بلدنا وإلا فلا جدوي من هذا الحديث إذا كنا نفرض علي الآخرين رأينا بالقوة إلي حد تحطيم منجزات الآخرين. إننا جميعا في أمس الحاجة إلي مراجعة النفس لنكتشف قدر ما تبقي من الخير بداخلنا، فلابد وأن تكون لدينا الرغبة وقوة الإرادة لنتوقف عن توجيه الاتهام بالكفر إلي الآخرين وأن نشغل أنفسنا بما نحمل من عيوب قبل أن نشتغل بعيوب غيرنا من وجهة نظرنا نتيجة لتعصبنا لرأينا. إن نبذ التعصب إنما يحرر الإنسان من رذيلة مستحكمة ويدفعه إلي التحلي بصفات العدل والإنصاف ومواجهة العنف والتطرف اللذين أصبحا يهددان بالقضاء علي الحريات الفردية. إن الأمر لا يحتاج إلي قانون جديد تسنه الدولة وإنما إلي قرار من النفس..من الذات.. قرار يحقق لي وللآخرين الأمان علي كل المستويات، فهل لدي ولديك ولديهم ولديهن الرغبة والقدرة علي اتخاذ هذا القرار.. قرار نبذ التعصبات بجميع أشكالها وليس التعصب الديني فقط؟ أتمني أن تكون لدينا جميعا القدرة علي أن نعطي لأنفسنا قدرا أكبر من الحرية الفكرية.. فنبذ التعصب والحرية الفكرية وجهان لعملة واحدة، ولكن أين المسك الذي يمكنه أن يسك هذه العملة؟! وفي أي بلد من بلدان العالم اليوم يمكن تداول هذه العملة؟