"السريالية" هي مذهب فني نشأ بعد الحرب العالمية الأولي، والمعني الحرفي للكلمة هو "ما فوق العقل" وهي شكل من اشكال التعبير الفني لا يخضع لحسابات العقل فنجد اتباعه يرسمون اشكالا غير معقولة وسط اجواء غير معقولة، فيجد المتلقي نفسه يدخل في عالم غريب لا يجد له مثلا في الواقع، فهو عالم يستمد وجوده من "اللاشعور" الذي لا تحكمه نظم وقوانين عالم "الشعور" أو العقل الواعي فهو يقف علي النقيض من علم الفكر الانساني الذي يتحكم العقل في توجيهه وارشاده. واذا كان هذا الفكر جائزا في الفن، إلا انه ليس جائزا في تطبيقه علي المجتمع.. ولكن الواقع يرصد حقائق اخري، فخصائص هذا المشهد السريالي تجدها واضحة جلية اذا القينا نظرة عامة علي ما يدور حولنا في الآونة الاخيرة من سيطرة الافكار التي لا تخضع لاي تفكير عقلاني أو تتفق مع أي منطق ان الفكر السريالي ينتشر في المجتمع محدثا الكثير من الاضطرابات في المشهد الاجتماعي متمثلا في سلوك الافراد. فازدادت الهوة عمقا بين المظهر والجوهر.. بين الاقوال والافعال، كما ازدادت الهوة اتساعا بين اصحاب الاديان والعقائد المختلفة فجرت مناقشات سريالية عجيبة علي كل المستويات بدءا من رجال الدين وانتهاء برجل الشارع.. مناقشات لا يحكمها منطق عقلي أو علمي، وانما يحكمها فقط الجمود الفكري أو التعصب الاعمي.. فأصحاب الجمود الفكري سواء أكانوا من رجال الدين أو من المثقفين أو من انصاف المثقفين أو من الجهلاء أو من الأميين الذين وجدوا انفسهم تابعين للآخرين، كل هؤلاء يدخلون انفسهم في صراعات شتي مع فئات أخري متعددة من المجتمع وهو ما يجعلنا جميعا نقع تحت وطأة هذه الحالة من الغليان الفكري والفوران العقائدي المتعدد الأصول، وكل هؤلاء يهدرون طاقاتهم وطاقات الآخرين الفكرية والوجدانية في جدال مستمر حول أفكار سلفية نسيها الزمن فينتهون الي ما بدأوا منه وهو الرفض القاطع لافكار ومعتقدات الآخرين. فالجمود الفكري هو آفة المجتمعات فعندما يستشري في مجتمع ما فإنه حتما يؤدي الي توقف عجلة التطور والنماء علي كل المستويات، بل انه يوقف ايضا دوران عجلة الابتكار الفردي في حين تتسارع مؤشرات التغيير والتقدم والتنمية في ارجاء العالم من حولنا ونشاهد نتائجها وآثارها في كل حين.. هذا الجمود عندنا والتسارع عند الآخرين يعطي الكثيرين احساسا بالدونية يولد احساسا بالعداء، وتزداد مؤشرات التعصب الذي هو الابن الشرعي للجمود الفكري. هذا الجمود الذي يدخلنا في العديد من الحلقات المفرغة التي تزيد من الصراعات التي قد يستخدم بعض اطرافها كل الوسائل والحيل حتي وان كانت تتنافي مع القيم الاخلاقية لكي يثبتوا لانفهسم قبل ان يثبتوا لغيرهم انهم علي صواب. فتزداد القيم الاخلاقية انحدارا وتزداد حقوق الانسان انتهاكا. وفي مقابل ذلك يزداد التمسك الصوري والشكلي بالمثل العليا انتشارا فندخل في دائرة مفرغة أخري من المتناقضات التي تغذي الصراعات بدرجات مختلفة اقلها قادرة علي هدم أركان المجتمع. ليس المطلوب ان نحقق وحدة الرأي أو وحدة الدين في مجتمعنا لكي نعيش في سلام مع بعضنا البعض، ولكن المطلوب هو تحقيق وحدة من نوع آخر، وحدة ليست دينية أو علمانية وانما "وحدة انسانية" ترتكز علي حتمية وجودنا الانساني معا في هذا البلد الذي ننتمي اليه كلنا. تلك الوحدة التي لن نصل اليها إلا باستنارة افكارنا الشخصية لكي يصل كل منا الي مرتبة من الفهم والادراك لأسس العلاقة التي يجب ان تحكم البشر الذين يختلفون في العقائد ويعيشون في بلد واحد أو في عالم واحد، تلك المرتبة من الفهم والادراك لا تتطلب مناقشات مطولة لبديهيات الأمور من حرية الفكر والاعتناق. ولكن الفهم والادراك فقط ليس قادرين علي تغيير السلوك الاجتماعي للافراد وبالتالي تغيير المجتمع، دون ان تأخذ هذه المفاهيم وتلك المدركات طريقها الي التطبيق العملي في حياة الفرد اليومية. فإذا كنا حقا نريد أن ننقذ أنفسنا علينا أن نفكر في آثار تطبيق هذا علي مجتمعنا.. عندما نخفت صوت التعصب الجمهوري الي أدني مستوياته أو يختفي تماما ويعلو صوت الحوار القائم علي الرغبة الحقيقية في فهم الآخر.. عندئذ نستطيع أن نحترم آراء ومعتقدات الغير ولا نهاجمهم بالأقوال القبيحة أو حث الآخرين علي الأفعال العنيفة.. عندئذ نكون قد وضعنا أقدامنا علي الطريق الصحيح. الموضوع كله في رأينا ينصب علي الإيمان بأن أصل الإنسان خير وليس شرا، فالأصل في الوجود الإنساني هو الخير الذي يتجلي في الصفات الحسنة، أما الشر فهو عدم وجود الخير. فليس للشر وجود في حد ذاته وبناءً علي ذلك فإننا لو ركزنا في حوارنا علي مخاطبة الخير في الإنسان وليس إقصاءه ليظهر ما نطلق عليه شرا، فإننا سنذهل من النتيجة.. ومن هنا تأتي أهمية أن نتناقش أو نتحاور أو نتجادل علي أرضية من الاقتناع بأن الآخر الذي أحاوره إنسان يتمتع مثلي بوجود الخير بداخله بنسبة ليس من حقي أن أحددها وإنما علي فقط أن أتعامل مع هذه النسبة، وإذا لم أتمكن من رؤية هذا يكون العيب في وليس في الآخر. وفي هذه الحالة يكون من الضروري أن أبدد ما أحمل من شكوك تجاه الآخر وأن أعمل بمنتهي الجدية علي إعادة تفحص الأفكار والمعتقدات الناجمة عن ترسبات لتفسيرات قديمة قد تكون خاطئة. وفوق ذلك كله فإن الموضوع يتطلب إدراكا واضحا لمدي الحاجة الي تطبيق هذا المنهج في التعامل مع الآخرين الآن.. إنها حاجة أصبحت لا تقل أهمية عن احتياجنا الي الغذاء أو الكساء أو.. وذلك للمحافظة علي اتزان المجتمع وحمايته من الانهيار الذي قد يصبح وشيكا. لذا فلابد وأن يوجه كل منا أفكاره ومشاعره ليس فقط نحو قبوله الآخر في بلدنا وإنما نحو مشاعر الود والرغبة في الاتحاد مع هذا الآخر لنشكل معاً وحدة واحدة في وطننا.. هذا الاتحاد الذي يجب أن يوجه نحو الارتقاء بالمجتمع ككل، فإذا خطر بقلب أحدنا خاطر من الحرب الكلامية الشعواء من قبيل الحض علي الكراهية والتكفير، فإن عليه أن يقاومه بخاطر أنبل منه وأعظم من قبيل الصلح والوئام بين أتباع الديانات والعقائد الذين يمثلون طوائف المجتمع المختلفة. لذا فإنه يجب محو فكرة "العداوة" تماما من بيننا واستبدالها بفكرة "حب الآخر" في مجتمعنا.. في بلدنا .. في وطننا