ان المتأمل في الفكر القانوني في مصر سوف تصدمه صور عديدة من التناقض والتعارض التي تعكس بعض الاتجاهات الفلسفية والفكرية التي تتسم بالغلو والتشدد، في مصر والعالم العربي بوجه عام والتي تقوم ببناء الاحكام علي الفرضيات والنوادر من الاحداث في حياة الناس وليس بناء علي الغالب الشائع وتنظر الي الناس وتصرفاتهم بمنهج الشك والريبة فتنقلب الاصول العامة في الاثبات حيث يتعين علي البريء ان يثبت انه بريء وعلي الصادق ان يثبت انه صادق، وتصبح البينة علي المدعي عليه ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق؟ ويخون الأمين وقد يؤتمن الخائن. ولاشك ان هذا المنهج الذي يقوم علي الريبة والشك في كل شيء يؤدي بالناس الي اليأس والاحباط وما ينتج عن ذلك من تداعيات ليست في صالح المجتمع بأي حال عندما يجدون انفسهم في موقف يتعين عليهم فيه توضيح الواضح وتأكيد المؤكد واثبات ما هو ثابت، في ظل نظم قانونية لا تتسم بالعقلانية ولا بالمنطقية، تتعارض وتتناقض وتوقع الناس في الحرج والعنت والمشقة وتبدد طاقاتهم وتهدرها فيما لا يفيد المجتمع، فتنعدم القدرة علي الخلق والابداع في جميع الجولات وتتوقف حركة التقدم في المجتمع ويتراجع الي الوراء، بينما تتقدم أمم أخري تسود فيها الثقة بين الافراد ولا مجال فيها لمناهج الشك والغلو والتشدد. وتبدو اهمية اثبات الحقوق في حق من اخص حقوق الانسان المصري وهو الحق في الجنسية المصرية باعتبار انه من اهم الحقوق التي تكون الشخصية القانونية للفرد، لما يترتب عليه من تمتعه بحقوق اخري كفلها الدستور والقانون للمواطنين، بصورها المختلفة من حقوق مدنية الي حقوق اجتماعية وحقوق سياسية، حيث يتعين علي المواطن انه يثبت انه مواطن وعلي المصري ان يثبت انه مصري. فإذا كان ذلك هو منهج البشر في شرائعهم، فحري بنا ان نلقي اطلالة سريعة علي منهج شريعة الله سبحانه وتعالي فيما شرعه للناس ليبين لنا الخيط الابيض من الخيط الاسود، ويظهر الحق والباطل. فقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وعمارة الارض، وهو تبارك وتعالي أعلم بهم وبقدراتهم وبطاقاتهم فقال عز من قائل في كتابه الكريم : "الا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" "الملك آية 14" ولذلك لم يكلفهم بما ليس في وسعهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به ولم يجعل عليهم في الدين من حرج فقال تعالي: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" "البقرة 286" "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر "البقرة 185"، "وما جعل عليكم في الدين من حرج" "الحج 78" والآيات غير ذلك كثيرة في كتاب الله عز وجل تؤيد وتؤكد هذه المعاني السامية، وتؤكد لكل متنطع ما يتصف به الدين الاسلامي من اليسر والسماحة. اما سنة خاتم الانبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فالاحاديث النبوية كثيرة تنهي عن الغلو والتشدد نذكر منها: - يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا رواه البخاري. - ان الدين يسر ولن يشاد هذا الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه. - وعن عائشة رضي الله عنها انها قالت: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم اذا امرهم، امرهم من الاعمال ما يطيقون اخرجه البخاري في كتاب الايمان. - اياكم والغلو فإنما اهلك من كان من قبلكم الغلو رواه النسائي في كتاب المناسك وبن ماجة في كتاب المناسك. - لا تتشددوا علي انفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما تشددوا علي انفسهم فشدد الله عليهم" اخرجه مسلم في صحيحه. وقد دعا النبي صلي الله عليه وسلم علي من يشق علي الناس، ودعا لمن يرفق بهم فقال: "اللهم من ولي بين أمر أمني شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" رواه أبو داود في كتاب الأدب عن عائشة رضي الله عنها. ويظهر لنا من تلك الأحاديث النبوية الشريفة التي سقناها أنها قد وردت بعدة صيغ مختلفة، فالتحذير بقوله: "إياكم.. الحديث: والنهي بقوله: "لا تنتشدوا.. الحديث". .. كما أن الحديث قد يأتي أيضا في صيغة الخبر.. من ذلك قوله صلي الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته". رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وروي أيضا عن مفضل بن بسار رضي الله عنه "سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: ما من عبدا يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد ريح الجنة"، وعنه في رواية أخري "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة". وعلي الرغم من أن هذه القواعد واضحة وهذه الحقائق واضحة إلا أننا لا نعدم من يجهلها من ذوي الفكر والرأي ونجد من يتنطع في فهم هذه النصوص أو محاولة إفهامنا إياها علي هواه. فقد روي مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا. يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث هلك المتنطعون: أي المتعمقون، الغالون، المتجاوزون الحدود. من أقوالهم وافعالهم، وقال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوي: هلك المتنطعون: أي المتشددون في غير موضع التشديد. ويلاحظ أن الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه، قد نعي علي المتشددين في غير موضع التشديد ثلاث مرات، وما كان يكرر الثلاث إلا لعظم خطر التنطع، كما أن هذه العبارة "هلك المتنطعون" وهي جملة خبرية حتي لو كان مقصودا بها الدعاء بالهلاك علي المتنطعين، ولكنه صلي الله عليه وسلم يخبرنا عن هلاكهم، أي انهم قد هلكوا بالفعل لا محالة. وعلي ذلك فإنه ينبغي علي المشتغلين بالقانون وغيرهم أن ينتبهوا إلي هذه القواعد والأوامر الإلهية، كما أن من يوقعون الناس في الحرج والعنت والمشقة ويشددون عليهم، وهم المتنطعون عليهم أن يفزعوا بعد دعاء النبي الكريم عليهم بالهلاك فإذا بما ليس في وسعهم الاتيان به، فيكونون بذلك قد خانوا الأمانة التي أخبرهم الله أن يؤدوها إلي أهلها، حيث قال تعالي: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" [النساء:58]. ويكونون أيضًا بذلك قد أوقعوا الظلم بالناس بالتشديد والتضييق عليهم، وهو ما نهي الله عنه، ومن ثم فإن مصيرهم المحتوم هو الهلاك، وهلاك الظالمين في حد ذاته هو نعمة من الله سبحانه وتعالي تستوجب أن نحمده عليها، فقد قال تعالي في الآية رقم 45 من سورة الأنعام: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".