التوقيت الذي انتقاه عبدالحليم خدام لتفجير قنبلته العنقودية، زاد حجم الأضرار الناجمة عنها. خدام باغت الجميع، في لبنان كما في سوريا. المفاجأة أربكت المنهمكين في محاولة احتواء تداعيات زلزال اغتيال رفيق الحريري. وحدها لجنة التحقيق الدولي في اغتيال الحريري تبدو هانئة بقنبلة خدام التليفزيونية. من غير الممكن الفصل بين فعلة خدام وطلب اللجنة لقاء الرئيس السوري ووزير خارجيته. ربط الاستئناف بلقاء الرئيس يشكل تصعيداً من قبل اللجنة علي نحو يطرح سؤالاً تلقائياً، عما إذا كان خدام علي علم مسبق بعزم اللجنة طلب الأسد والشرع أم جاء استباقة هذه الخطوة عفو الخاطر. الانتماء للوطن ليس حالة انتقائية ما من سبيل أمام نائب الرئيس السابق لإدعاء الطهارة السياسية. القنبلة العنقودية التي ألقي بها في وجه النظام ترتد إليه. خدام نفسه لا ينجو من أضرار توقيت إلقاء القنبلة. كشف المستور عقب الإقصاء يضع صاحبه بالضرورة في موقع الراغب في الانتقام. الاعتراف بالخطايا السياسية فضيلة غائبة في الوطن العربي. توقيت خدام يجرده من ذلك المضمون الأخلاقي الاستثنائي. ممارسة النقد من موقع الهزيمة في الوقت الضائع يصبح توغلاً في الخطايا. بعد الإقصاء يكون الصمت أفضل من الكلام المباح. رد انفعالي خدام كان مهيأ لرد فعل شرس من قبل نساء النظام ورجاله. في الحديث التليفزيوني توقع رد فعل مضاداً يضيق عليه، الهجوم المكثف علي خدام مثل قنبلته يرتد إلي أصحابه، كشف فساد نائب الرئيس المنشق وأبنائه يدين النظام بأسره. الرد الرسمي علي خدام اتسم بالانفعال أكثر من الموضوعية، كل النواب تساووا مع نائب الرئيس السابق في التوقيت إذ جاء حديثهم في الوقت الضائع. السكوت عن فساد خدام وأبنائه إلي حين هجومه علي النظام يدين أصحابه. الذين بدأوا إعداد ملفات محاكمات خدام غير مبرئين من المساءلة السياسية، الوطنية ليست حالة انتقائية أو رد فعل، نائب الرئيس السابق متهم باستغلال النفوذ، ثمة مسئولون آخرون متورطون بالضرورة في التسهيل لخدام وأبنائه، قضية النفايات النووية ليست بالجديدة، هناك أطراف داخل النظام ساهمت في دفن تلك القضية مثلما هناك أياد رسمية ساعدت أبناء خدام في جني ثروات من وراء ظهر الشعب. حسابات خدام لم تكن تقتصر علي الصعيد السوري الداخلي وحده بل أخذت في الاعتبار الوضع الإقليمي والدولي. إذا كانت قنبلة خدام جاءت في سياق الصراع علي السلطة في دمشق فإن سوريا نفسها مستهدفة علي الساحة الإقليمية. ليس الدور السوري في لبنان وحده الواقع في مرمي النار. سوريا تتعرض إلي ضغوط علي كل حدودها بأثقال متباينة، انكفاء النظام السوري داخل حدوده غاية طارئة في التقاطعات الدولية علي الصعيد العربي. الحملة المكثفة تستهدف فيما تستهدف تهشيم صورة دمشق قلعة قومية في بعض العيون العربية. الحصار لم يعد يتيح للنظام السوري تصدير بعض أزماته الداخلية عبر الحدود. زيادة التشظي اللبناني إذا كان اتهام خدام للنظام بانتهاك سيادة لبنان والمساس بهيبة الدولة فيه فإن الاتهام يطال بالضرورة نائب الرئيس الذي أدار اللعبة السورية في لبنان سنين عدداً. إذا كانت دمشق دأبت علي تنصيب وعزل رؤساء الجمهورية والحكومة في بيروت فهذه ليست بدعة علي أيام بشار الأسد. إذا كان النظام السوري وضع لبنان رهينة في قبضة جهاز الأمن ورجاله في دمشق فإن نائب الرئيس السوري المنشق كان راسماً ومشرفاً ومنفذاً لذلك النهج. إذا كان عدد من الساسة اللبنانيين تعرضوا للسباب والتحقير من قبل مسئولين سوريين فإن عبد الحليم خدام ليس بريئاً من تلك الممارسات الخرقاء. في عهد خدام نائباً للرئيس السوري أو مكلفاً بالملف اللبناني شهد لبنان سلسلة من التصفيات الجسدية لشخصيات لبنانية بينهم سياسيون وإعلاميون بتفجيرات وأدوات أخري لا تقل دموية. شيء ما داخل النظام السوري فرضية السيناريو الذي يربط بين قنبلة خدام وطلب لجنة التحقيق الدولي لقاء الرئيس السوري ووزير خارجيته، يضع قبول سوريا التعاون مع اللجنة داخل أنبوب الاختبار. مع أن التجاوب ينسجم مع التوجه السوري المعلن إلا أن المراقبين سينظرون إليه في إطار التداعيات التي أحدثتها قنبلة خدام. علي الرغم من أن رفض دمشق التجاوب مع اللجنة وإعلانها رفض الرئيس، الطلب ليس بالمستبعد في سياق مواقف سوريا المألوفة، إلا أن هذا الرفض علي وجه التحديد لم ينظر إليه إلا في سياق تداعيات قنبلة نائب الرئيس المنشق. ثمة معارضون سوريون وجدوا في حملة الهجوم الرسمي علي خدام مثلما عثروا في انشقاق خدام وقوداً، يمكن إشعاله بذكاء في وجه النظام. هجوم نائب الرئيس المنشق علي النظام والهجوم الرسمي المضاد علي خدام يصبَّان في خدمة المعارضة. الطرفان اعترفا علناً بكم من الفساد يزكم الأنوف. انشقاق خدام جاء عقب انتحار وزير الداخلية غازي كنعان في مكتبه في توقيت بالغ الحرج بالنسبة للنظام. قطاع عريض داخل سوريا وخارجها لم يتقبل الرواية الرسمية لانتحار وزير الداخلية. البعض يردد كلاماً عن تصفية كنعان تصفية سياسية لأسباب تتعلق بالملف اللبناني أو اغتيال الحريري علي وجه الدقة. وزير الداخلية كان المسئول الثاني الذي انتحر في ظروف غامضة. الأول كان محمود الزعبي رئيس حكومة وبرلمان سابق، انتحر تحت ضغط داخل النظام. التحريض علي الهرب إلي الخارج مغامرة عبدالحليم خدام ربما تغري بعض المترددين أو الوجلين في صفوف المسئولين بالانشقاق. من غير المستبعد وجود مسئولين يرصدون تداعيات مغامرة خدام ومصيره. ليس مستبعداً أن يفتح مثول نائب الرئيس السابق أمام لجنة التحقيق الدولي تقدم معارضين سوريين للشهادة. بعد قنبلة خدام لم يعد الملف السوري منحصراً فقط في قضية اغتيال رفيق الحريري. من المؤكد أن نائب الرئيس المنشق يستهدف إطاحة النظام السوري نفسه. صحيح أن الإدارة الأمريكية أكدت أكثر من مرة أنها لا تريد تغيير النظام السوري لكنها ترغب في حمله علي تغيير سلوكه. قد لا يجافي المنطق القول كذلك ان واشنطن بلغت بها القناعة حداً يجعلها لا تري إمكانية تغيير النظام السوري سلوكه. متابعة هذا المنطق يفضي إلي قناعة الإدارة الأمريكية بالعمل علي تغيير النظام في دمشق. افتراض أداء خدام دور المخلب في سيناريو أجنبي يفضح إخفاق الثقافة السورية التي ظلت ماكينة النظام تضخها علي مدي أربعين سنة. كل القنوات السورية مشبعة حد التخمة بالثقافة الوطنية والالتزام الوطني والوعي القومي. الواقع ليس الافتراض وحده الذي يفضح هذا الإخفاق. الحملة الرسمية المكثفة علي نائب الرئيس المنشق ذهبت أبعد من خدام في كشف هذا الفشل. نواب الشعب رجموا نائب الرئيس بكل الجرائم السياسية والأخلاقية ما وسعتهم التعبيرات الخرقاء في القاموس العربي. من يقف إلي جوار خدام ؟ من الواضح الجلي أن معركة خدام وخصومه هي معركة فرعية علي جبهة داخلية. هذه الجبهة تصبح باردة حينما تكون ثمة جبهة مفتوحة في الأفق الخارجي.