في صدد تفسير حقيقة العين وبيان تأثيرها ثمة أقوال ووجوه متعددة : فمنها ما يذهب إلي أن إرادة الله وسنته جرت على تغيير المحسود والمعيون عند نظر العائن إليه وتحديقه فيه دون أن يكون هناك علاقة سببية بين الأمرين وإنما المغيّر والفاعل هو الله عز وجل ، لكن تغييره حصل اتفاقاً عند نظر العائن .. وهذا التفسير فضلاً عن افتقاره إلى الدليل فإنه يحمل إنكاراً ضمنياً لتأثير العين. وهناك التفسير المادي : وله وجهان : أحدهما التقريب الساذج المنسوب إلى الجاحظ ، وحاصلة: أن ثمة أجزاءاً مادية تنفصل من العين وتتصل بالجسم المحسود فتؤثر فيه تأثير السم في الجسم الملدوغ . والثاني : وهو التقريب الذي يعطيه البعض لبوساً علمياً وخلاصته: أن العين بتركيبتها العلمية الفيزيائية هي أشبه بعدسة مكبرة تستجمع الأشعة المغناطيسية الموجودة في الإنسان وتصوبها نحو الأشخاص والأشياء، وكما أن المكبّر يحرق الورق والهشيم اليابس تحت وطأة الأشعة الشمسية الموجهة بواسطته، فإن العين أيضاً تحرق أنسجة محددة في الجسم الإنساني أو الحيواني أو النباتي أو غيره . وهناك التفسير النفسي: وهو المنسوب إلى بعض الحكماء ومفاده: أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب الكيفيات المحسوسة الملموسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ... وهذا التفسير يميزه أنه وضع المسألة في إطار الإمكان، وهو ما لا نعارضه ، شريطة أن لا تثبت صحة تفسير آخر. إنّ التفاسير الأنفة إنما يكون لها وجه ويتحتم اللجوء إليها في حال تمّ الاعتراف بواقعية العين ولم يثبت بطلانها، فهل يمكننا الاعتراف بذلك؟ وبمنطق آخر : هل من دليل يحتم الاعتقاد بواقعية الإصابة بالعين ، أم أنه معتقد أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة؟ الإصابة بالعين والإمكان العقلي والعلمي: في الإجابة على ذلك لا بدّ من القول بداية: إننا عندما نواجه أمراً ما أو حدثاً معيناً سواء كان يتصل بالمعتقد أو بالواقع فإن علينا أن لا نسارع إلى رفضه ورميه بالخرافة ، كما أن علينا ألا نكون سُذَّجاً فنبادر إلى الإذعان له وترتيب الآثار عليه، والموقف الصحيح أن نضعه في دائرة الإمكان على القاعدة المنسوبة إلى الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا ومفادها :" كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان". ومسألة الإصابة بالعين تندرج في هذه القاعدة التي لا بدّ أن توضع في دائرة الإمكان العقلي إذ ليس ثمة محذور عقلي في كون العين لدى بعض الناس مؤثرة فيما تحدّق فيه، فلا مبرر لإنكارها، كما أنه لا بدّ أن توضع في دائرة الإمكان العلمي إذ ليس هناك استحالة علمية في مؤثريتها وقدراتها ، لا سيما بملاحظة ما تقدمت الإشارة إليه من جود قوة كهرومغناطيسية يمتلكها جسم الإنسان بإمكانها التأثير في الأجسام، وإنّ ما يعرف علمياً "بالتنويم المغناطيسي" يعتمد على هذه القوة. ولذا فإن الإمكانية العلمية وكذا العقلية قد ترتفع نسبة الاحتمال فيها إلى درجة التصديق وقد تنخفض إلى درجة الإنكار، وهذا الارتفاع أو الانخفاض مرتبط بوجود القرائن والشواهد العلمية أو الدينية سلباً أو إيجاباً. وإذا كنا لا نملك شواهد علمية دقيقة متفق ليها تؤيد الاعتقاد بالعين فربما يثار السؤال هل نمتلك نصوص دينية في هذا المجال ؟ يبدو أن الاعتقاد بإصابة العين لم يحظ رغم شهرته بإجماع إسلامي، فقد أنكر بعضهم تأثير العين قطعا و بمنتهي الصراحة، كما هو حال الجبائي (أحد أئمة المعتزلة) . وفسرّها بعضهم تفسيراً هو أقرب إلى الإنكار، كالشريف الرضي وأبو هاشم وأبو القاسم البلخي الذين رأوا في تفسير العين أن الله سبحانه وتعالى وحفظاً للحاسد من الحرام يسلب نعمته من المحسود ويعوّضه بنعمة أخرى بدلاً عنها . القرآن والإصابة بالعين: حاول البعض التمسك بالقرآن الكريم لإثبات صحة الاعتقاد بالعين وذلك من خلال بعض الآيات، وأهمها آيتان: الأولى: قوله تعالى حكاية عن يعقوب (ع) في وصيته لأبنائه:يا بَني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}يونس:67)، فقد فُسِّرت دعوة يعقوب لأولاده بالتفرق بأنها حماية لهم من العين، لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة وكمال. لكن التفسير المذكور غير تام إذ من الممكن أن يكون السبب وراء أمرهم بالتفرق هو: حمايتهم من الأذى والملاحقة في حال دخولهم مجتمعين من باب واحد. الثانية: قوله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلاّ ذكر للعالمين} القلم 51 52)، حيث حمل قوله "ليزلقونك بأبصارهم" على معنى: يهلكونك ويصيبونك بأعينهم كما ذكرنا في الجزء الأول . فالذين كفروا لشدة غيظهم ينظرون إلى رسول الله نظرات ملؤها الحقد والغضب تكاد تصرعه، وهذا التعبير متعارف ومألوف ويراد به بيان حدة النظرة ولؤم صاحبها، ونظيره ما يتردد على الألسنة في التعبير عن النظرة الحانقة:"يكاد يأكلك بعينيه". وثمة روايات عديدة واردة في مسألة العين : ففي الحديث عنه (ص) : أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين. وعنه (ص): العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين .. (رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه ) ويبدو لي أن هذا الحديث المذكور في سياق الاستدلال على صحة الاعتقاد بالعين هو على عكس المطلوب أدل، لأن "لو" حرف امتناع لامتناع، فيكون مفاد الحديث أنه ليس هناك شيء يسبق القدر بما في ذلك العين، نعم لو سبقه شيء لسبقته العين، فهذا الحديث هو نظير قوله (ص) : لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.. وهذا يثير فائدة وجدوي الرقى من العين الثابتة .. وهو ما نتناوله في المقال القادم بمشيئة الله .