لوحاته الزيتية جسدت مشكلات اجتماعية من شتى بلدان العالم ، ونال شهرة كبيرة في عالم الفن التشكيلي منذ أواخر الثلاثينات, هو الفنان "محمد صبري" حاصد الجوائز ورائد فن الباستيل في مصر. محمد صبري مع معركة بورسعيد التقيناه لنستعرض معه رحلته الفنية التي دامت 68 عاماً انتقل خلالها من مرحلة لأخرى ووصل لنضج الفنان والإنسان ، حتى صار أبا لفناني مصر . محيط رهام محمود صاحب لوحة "الزوجة الشابة" التي أثارت الجدل في الأوساط الفنية والأدبية عام 1940, زار القرية المصرية في أوائل الأربعينات, ورسم العديد عن أحوال القرية في لوحات "دودة القطن, البلهارسيا المطلقة, الجوزة, الشاي الأسود, كتاب القرية, الغسيل, الساقية, النورج...", رسم لوحة النحاسين في بعثته لمرسم الأقصر, كما تناول الآثار الفرعونية, ومدينة الهبو, والكرنك, والوادي الجديد, والقرنة, والجبل, والنيل في لوحاته, وقد تأثر ببعض الأحداث القومية والتاريخية في لوحات زيتية كبيرة كمعركة بورسعيد, والسد العالي, وخطاب السلام وإتفاقية القاهرة, والعبور العظيم. ومن خلال مشواره الفني الذي يصل إلى 68عاما, يختار الفنان مجموعة من لوحاته التي امتزجت بخبرته الكبيرة منذ عام 1940 حتى الآن, ليعرضها في قاعة الفن التشكيلي بدار الأوبرا المصرية تحت عنوان "رؤية مصرية": محيط: كيف جاءت شهرتك كفنان باستيل؟ وأصبحت رائدا لهذا الفن؟ صبري: كان محمد محمود خليل رئيسا لجمعية محبي الفنون الجميلة حيث يستضيف معارض دولية في مصر, ليطلع الفنانين المصريين على فنون البلدان الأخرى, من بين هذه المعارض معرض في أواسط الأربعينات بأرض المعارض في الجزيرة "الأوبرا حاليا" لفنان أجنبي كان يستخدم ألوان الباستيل في أعماله, أعجبت جدا بالمعرض, وبهرتني الألوان الباستيل فاللوحات كانت كبيرة ومعبرة جدا, ومن ذلك الحين وأنا تعلقت بالباستيل, فأحضرت تلك المادة وتعرفت عليها, وعرفت أسرارها. محيط: صف لنا خامة الباستيل مقارنة بالألوان الزيتية؟ صبري: هذا الفنان الأجنبي أعطى محاضرات عن هذا الفن في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية, فهي مادة محبة لنفسها, صعبة جدا لا يمكن الوصول إليها إلا بصعوبة, لأنها ألوان لا تمسح ولا تتغير إذا لم يكن اللون في مكانه, والغريب في الباستيل انها مادة صلبة هشة, تمكنك من عمل اسكتش ولوحة كاملة في الوقت نفسه, فمثلا يمكنك رسم منظر طبيعي في جلسة, عكس الزيت الذي ترجع له عدة مرات, والذي يحتاج وسائط أخرى في إنجاز العمل كالتربانتينا, والزيت, والباليتة, وحامل, وشاسية, وتوال. كما أن خامة الباستيل تعيش طول العمر حينما تضعها داخل زجاج, بينما الألوان الزيتية تتأكسد من عوامل الجو. محيط: مازلت تعمل بالألوان الزيتية رغم عشقك لخامة الباستيل ؟ صبري: كلتا الخامتين مفضلتان عندي, لأن الباستيل يمكنني من أن أكمل اللوحة في وقتها, فهذه ميزة رائعة إذا سيطرت على المادة وعرفت أسرارها, أما الزيت فيحتاج التعامل معه لأكثر من جلسة بحسب الموضوع. وأنت تستطيع رسم لوحة مترين ونصف بالزيت , لوحة لمحمد صبري ولا تستطيع أن ترسمها باستيل ؛ فاستخدام الباستيل محدود لا يزيد عن مساحة 100×70سم, لكن الزيت إمكانياته كبيرة جدا على سبيل المثال يمكنني استخدامه في مساحة 4متر أو كما أرغب , بالتالي أجد بها براحا في التعبير عن الموضوعات الكبيرة لا أجدها في الألوان الباستيل, وكلا من الخامتين لها مزاياها, ومحببة لنفسي. محيط: محطاتك الإبداعية وضحت جيدا بمعرضك الجديد ،حدثنا عنها ؟ صبري: بدايتي في الحركة الفنية عام 1936 في صالون القاهرة السادس عشر, كنت طالبا في كلية الفنون التطبيقية, وكان أول معرض لي عام 1943, أغلب اللوحات عن مشاكلنا الاجتماعية, إضافة ل"الزوجة الشابة, شارع البحر, نصف الليل, السائل, درس ديني, الجمعة" كان يشدني الطبيعة والمجتمع الذي يحوي مشاكل كبيرة فكنت أحاول معالجتها بالرسم, فما تشاهده العين من لوحات يصل أسرع للنفس مما قد تقرأه أو تسمعه . الفنان الصادق يعكس بأعماله كل ما يحدث في البيئة, وأنا أشكر "جويا" الفنان الاسباني العظيم فحينما أرى لوحاته أشعر بالفترة التي كان يعيش فيها من ناحية الأحداث, المناظر, الأشخاص, وكل ما يحيط به, وما يحدث في الفترة التي عاش بها. في العام الماضي عرضت لوحات عن رحلتي للمغرب "ثمانون لوحة" في نفس القاعة تحت مسمى "رحلة المغرب والأندلس", هذه الرحلة كانت في عام 1956حتى 1958, وكانت تجربتي من أوائل المعارض عن فنان مصري في المغرب يرسم لوحات عن الأندلس وأسبانيا بصفة عامة. معرضي هذا يضم لوحات من الأربعينات, وما بعدها, من مناظر, موضوعات, أحداث تاريخية, موضوعات شعبية واجتماعية في الريف والحضر وكل زمان ومكان. محيط: هل إحساسك اختلف عندما رسمت الأندلس عن ما رسمته بمصر؟ صبري: لم يختلف مطلقا, حينما رسمت الأندلس قال النقاد الأسبان أنهم يشعرون كأنني فنان أسباني ارسم المناظر الأسبانية بحس عالي جدا, وكذلك حينما أرسم مصر فأنا أرسم وطني بالضبط كفنان مصري صادق, لا أتأثر بأي مدرسة فنية حديثة, أو بأي مدرسة أوروبية كما قال النقاد في مصر, لوحة النحاسين وفي المغرب قالوا أن صبري جسد لنا مناظرنا والأماكن الأثرية الهامة في الوطن المغربي كما لو كان فنانا مغربيا, فأنا أشعر بأي شيء أمامي أرسمه في أي مكان, وأعطي كل شيء حقه, وهذا يكفي لكي يكون العمل صادقا. محيط: لوحة صبري من الفكرة حتى التوقيع .. هل كنت تخرج لتسجيلها من الطبيعة مباشرة؟ صبري: أول ما بدأت أرسم كنت انقل من الصور وهذا عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية بمدرسة "عباس " الابتدائية بالسبتية , كنت وقتها متفوق في دراستي ، وكثيرا ما فزت بكتب مرسومة لكبار الفنانين كهدايا , وكانت مطبوعة طباعة فاخرة بالألوان فكنت أنقلها نقلا حرفيا, بزغت موهبتي في الرسم ونصحني مدرس الرسم بأن أشتري كتابا للتعلم منها, فتعلمت المنظور والتشريح وأنا مازلت تلميذا. ثم بدأت أرسم من الطبيعة , فكنت أشاهد المنظر أكثر من مرة, إلى أن أشعر بأن الضوء يجسد المكان ويعطيه شخصيته, فأرسم بالقلم الرصاص والحبر والباستيل مباشرا كاسكتش كامل. معظم اللوحات من الطبيعة مباشرة كنت أرسمها بالألوان الباستيل؛ فمن المهم جدا للفنان أن يواجه باستمرار الطبيعة, وهذا لا يعني أنني أرسمها كاملة, بل أختار الزاوية التي تعجبني, أحذف شجرة, أغير فيها, أكون في منتهى الحرية حسب رؤيتي للمنظر والزاوية التي أرسم منها, أما موضوعات المعابد فألتزم بها كما هي, فأنا أحترم الأثر وأرسمه بجدية, وأنا لست مهندسا معماريا بل أنا مصور أحفظ المنظور الذي يظهر في لوحاتي واضح بنسب معينة وبحس فنى ؛ فالعمارة تساعدني على الموضوع الذي أرسمه. محيط: هل تغير إحساسك بافتتاح معارضك بعد رحلة فن دامت 68 عاماً ؟ صبري: الإحساس واحد لم يتغير, وكل اللوحات أولادي, فأنا أفخر جدا عندما أرى إقبال وتجمهر الناس لمشاهدة أعمالي بالمعرض. محيط: من مدّ لك يد العون في بداية طريقك؟ صبري: مدرس الرسم في المدرسة الابتدائية , وأساتذتي في كلية الفنون التطبيقية, وكلية سان فيرناندو في مدريد, وأعتبر رعاية الله هي أكبر عون لي في مشواري الفني ، كما أعانتني كثرة الزيارات للمعارض الفنية بمصر والخارج؛ حيث أفدت من أعمال كبار الفنانين. محيط: بماذا كنت تشعر عند تسلمك الجوائز المختلفة, كوسام فارس, وجائزة الدولة التقديرية, ووسام الملكة إيزابيل؟ صبري: إحساس بالفخر ، فكل وسام كنت أحصل عليه كان يمثل لي معنى كبيرا ففي مصر كان معناه أنني مقدر في وطني ، أما الأوسمة الأجنبية وخاصة من الدول العاشقة للفن لأنها تعطى دونما تحيز أو مصلحة . لوحة لمحمد صبري محيط : بعد خبرتك الطويلة وإبداعك المشهود له عالميا ، ألم تفكر في الاتجاه للتجريدية ؟ صبري: لم يحدث , رغم أنني أحترم كافة المدارس الفنية ولا يعني ذلك أن أتعرض لها. محيط: ما رأيك في الواقع التشكيلي الحالي ؟ صبري: الواقع جميل جدا, وألاحظ نشاط وزارة الثقافة المصرية الكبير ، والاهتمام بالنشء بإرسالهم بعثات وحصولهم على الجوائز والمنح. محيط: بمن تعجب من الفنانين الشباب؟ صبري: لا أذكر احد. محيط: بماذا تنصح شباب الفنانين, والكبار أيضا؟ صبري: أرجوا أن تنقلوا على اللوحات شعوركم وقناعاتكم الحقيقية لكي يصدقكم الناس, دون التقيد بأي مدارس فنية , وهنا تكون أعمالكم صادقة نابعة من الوجدان .