تتسم العلاقات المدنية العسكرية في تركيا بخصائص مختلفة تكاد تكون فريدة من نوعها؛ وذلك يرجع إلى الجذور التاريخية والأيديولوجية المتعلقة ببناء الدولة ذاتها على يد كمال أتاتورك القائم على الأسس العلمانية، والتي كان للمؤسسة العسكرية دور كبير فيها باعتبارها المؤسسة الوحيدة الناجية من انهيار الدولة العثمانية. الصراع التركي ليس على السلطة فقط، وإنما صراع على هوية الدولة أيضاً، حيث يعتبر الجيش نفسه الضامن للأيديولوجية الكمالية، في حين ترغب الدولة بالاستقلال وتوجه نحو بناء دولة مدنية بالأساس بعيد عن سيطرة العسكر. ولعل من يتابع المشهد السياسي هناك، يجد أن العلاقات المدنية والعسكرية في تركيا قد أصبحت من المشاكل المهمة التي تعرقل مفهوم الديمقراطية في البلاد خلال السنوات القليلة الماضية، ويتضح ذلك من خلال المراحل التي تنطوي تحول من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية. فقد شهدت تلك الفترة العديد من الأسباب التي أدت إلى ظهور تلك العلاقة السيئة منها الانقلابات و المخاطرات والمداخلات السياسية. ولذا؛ قام البرلمان التركي بالتصويت على تغيير المادة 35 من قانون الجيش التركي "التي طالما بررت الانقلابات ومنحت الشرعية لحكم العسكر" على حد تعبير وكالة الأنباء الرسمية وكالة الأناضول، ويأتي ذلك بعد عزل الرئيس محمد مرسي التي استنكرته حكومة تركيا بشدة. وكانت تنص المادة على أن "القوات المسلحة التركية مسئولة عن حماية الأراضي التركية والجمهورية الدستورية"و تم استبدالها بأن "القوات المسلحة التركية مسئولة عن حماية الأراضي التركية من الأخطار الخارجية وحماية القوة العسكرية وتدعيمها بشكل رادع للعدوان، وتأدية المهام التي يقررها البرلمان التركي خارج الحدود، والمحافظة على السلام الدولي". ثلاث انقلابات فمنذ وضع الدستور التركي في عشرينيات القرن الماضي وتقليص وحصر دور الدين بما يقر العلمانية التامة للدولة، وكفة السلطة تميل لصالح المؤسسة العسكرية التي نصبت نفسها حامية العلمانية، والتي من أجلها قامت بثلاثة انقلابات عسكرية على مدار 30 عاماً عطلت بها المسار الديمقراطي للدولة. وحدثت تلك الانقلابات بمعدل انقلاب كل 10 سنوات في أعوام (1960،1971، 1980) بالإضافة للانقلاب الناعم الذي أطاح بحكومة نجم الدين أربكان معتمدين في ذلك على الإعلام الذي عمل على إثارة مخاوف الشعب من حكومة أربكان الإسلامية حتى قدم استقالته في يونيو 1997. وقد تم تبرير تلك الانقلابات بأنها تأتي في إطار النظام الأساسي للجيش الذي ينص على دوره في حماية البلاد من أعداء الداخل والخارج، ومسئولية الحماية والحفاظ على تركيا الوطن الأم والجمهورية كما عرفها الدستور. ومن الجدير بالذكر أن تلك الانقلابات العسكرية لم تكن دموية بمعني أنها لم يكن ناتجاً عنها بحار وشلالات دم كبيرة، فعادة ما كان يعقبها حكم عسكري لفترة محدودة لا تزيد عن 3 سنوات، يوضع خلالها دستور يفرد للعسكر المزيد من السلطات ويسمح للمؤسسة العسكرية بالمزيد من الاستقلالية والفوقية على السلطة المدنية، ثم تعود بعدها الحياة الانتخابية والبرلمانية العادية. وهناك من يفسر الوجود السياسي للجيش إلى رغبة القوات المسلحة التركية بأن تكون الدولة عضواً في الاتحاد الأوربي، ولكن رغم هذه الرغبة إلا أن الشبهة الموجودة داخلها ضد الدول الأوروبية يجعلها تبني بداخلها عدم الثقة وبشكل جدي. ولكن تلك السيطرة العسكرية على الحياة السياسية تراجعت منذ عام 1989، والذي تم فيه انتخاب البرلمان لتورجوت أوزال رئيساً للجمهورية، وما أعقبها على مدار السنوات من تعديلات دستورية قلصت من صلاحيات العسكر المؤسسية في التدخل في الحياة السياسية، كما أطلقت الحريات السياسية بشكل أكبر. ترجيحات مدنية ولقد جاء تطور تلك العلاقة محكوماً بتغيرات سياسية في المحيط الداخلي والخارجي، لتتحول العلاقة من ترجيح كفة العسكر في السيطرة على سياسات الدولة إلى ترجيح كفة السلطة المدنية المنتخبة. ومثلت بداية القرن الجديد نقطة تحول أكبر في العلاقات المدنية العسكرية، حيث خضعت تركيا للعديد من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بالتزامن مع سعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي، خاصة مع توافق أهداف السلطتين المدنية والعسكرية. فقد أعاد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة"أردوغان" إلى قيادة البرلمان ومن ثم تشكيل الحكومة في (2003)، التوازن للعلاقات المدنية العسكرية بما يرجح كفة المدنيين لأول مرة من سنوات طويلة، وذلك بعد سعيه هو الآخر للانضمام إلى الاقتصاد الأوروبي، وبسبب توجه الحزب الوسطي المحافظ وقدرته على تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ، بالإضافة إلى محاربته الفساد، علاوة على قيامه التعديلات الدستورية التي تم تمريرها من خلال أغلبيته البرلمانية، والتي رجحت كفة المدنيين في مجلس الأمن الوطني الذي استخدمه العسكر لحكم البلاد حتى تحول إلى مجلس استشاري للحكومة، كما زادت فيه نسبة الأعضاء المدنيين، بالإضافة إلى تمكن الحكومة على مدار العقد المنصرم من أن تستبعد العسكريين بشكل كبير من القضاء والجهاز الإداري للدولة بشكل تدريجي. خلاصة القول، على الرغم من تلك الجهود المبذولة لترسيخ الديمقراطية المدنية التي ساهمت في التآكل المستمر نتيجة صراع الحزب مع العسكر لترسيخ الحكم المدني من خلال العديد من المعارك السياسية والقانونية... جاءت الاستقالة الجماعية لكبار قيادات الجيش في أغسطس 2011 احتجاجاً على رفض الحكومة ترقية زملائهم المعتقلين بتهمة التآمر على النظام، كتصرف يعكس خضوع غير مسبوق من العسكر لقرارات الحكومة المدنية، خاصة مع نجاح الرئيس عبد الله جول في تعيين رئيس جديد لهيئة أركان القوات المسلحة بدلاً عن المستقيل. إلا أن النفوذ الفعلي للعسكر لا يزال قوياً على المستوى المؤسسي بسبب الاستقلال النسبي للمؤسسة العسكرية.