يختلف الجيش التركي عن كثير من جيوش العالم حيث لعب دورا أساسيا في الحياة السياسية ولم يكن ظهور دباباته في الشارع من خلال انقلاب مرة أو مرتين او حتي اربع مرات أمرا عارضا. وإنما بدت تدخلات المؤسسة العسكرية وتوجيهها للحياة السياسية أمرا معتادا ومقبولا بالنسبة للأتراك. صحيح ان هذا الدور بدأ يتراجع في السنوات القليلة الماضية لكنه لا يزال موجودا ومؤثرا, علي الأقل من باب حماية العلمانية التركية. ورغم دور الجيش في الحياة السياسية التركية, إلا أن تركيا مع ذلك تعتبر دولة ديمقراطية بالمعايير الغربية منذ عام1950 حيث انتقلت الي التعددية الحزبية وباتت بعضويتها في حلف شمال الأطلسي جزءا من العالم الغربي. وقد بات الجيش التركي الذي يزيد عدده علي المليون عسكري من اكبر جيوش المنطقة وأفضلها تسليحا حيث يلقي دوره قبولا في الداخل لدرجة ان يلقي الدعم الواضح من رجال الاعمال ومن وسائل الإعلام ايضا, وهو الامر الذي ربما هيأ الشارع التركي لقبول أربعة انقلابات قام بها الجيش لتغيير الحكومة. وقد شجع ضعف الحكومات الائتلافية المتعاقبة الجيش التركي علي التدخل في الحياة السياسية والانقلاب علي الحكم أربع مرات, كان اخرها عام1997. تاريخ طويل ويعود تاريخ الجيش التركي ودوره المتعاظم في السياسة الي الجيش الانكشاري العثماني الذي لعب الدور الابرز في تغيير وإزاحة الحكام والوزراء, عبر التهديد او حتي القتل شنقا. ومن تحت عباءة هذا الجيش خرجت حركة الاتحاد والترقي لتطيح بالسلطان عبدالحميد في ابريل عام.1909 وفي العهد الجمهوري, لم يتمكن السلاطين والحكام وفي مقدمتهم السلطان أحمد الثالث ومن ثم محمود الثاني من التخلص من تحكم العسكر في الحياة السياسية, حتي الضابط الشاب مصطفي كمال أتاتورك من خلال حرب الاستقلال ضد بقايا الحكم العثماني وقوات الاحتلال الفرنسي والبريطاني واليوناني والإيطالي. ومن هذا المنطلق ترسخ اسم اتاتورك الجنرال القوي المنتصر مع رفاقه العسكر, حيث جرت صياغة إطار للحياة السياسية حسب توجهات المؤسسة العسكرية بعقيدتها الأتاتوركية التي تعني في الاساس بحماية النظام العلماني. أربعة انقلابات تدخل الجيش بشكل مباشر عبر اربعة انقلابات عسكرية خلال اقل من40 عاما, لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة في مقدمتها حماية النظام العلماني. اول هذه الانقلابات كان في مايو عام1960 حيث اطاح الجيش بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بالسماح للقوي الدينية بالعمل بحرية كانت الحكومات العلمانية السابقة قد منعتها تماما. ورغم ان مندريس لم يكن بالأصل إسلاميا فإن مجرد محاولته تخطي شكل العلمانية الذي شرعه أتاتورك كان كفيلا بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه بتهم غير جدية. أما الانقلاب الثاني فكان في مارس1971, وجاء لحماية المصالح الامريكية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوي اليسارية التي تصدت لها القوي اليمينية الإسلامية والقومية بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التي كانت تتخوف للتيار اليساري ان يتحول الي قوة جدية في الشارع التركي, خاصة بعد ان قام اليساريون الذين تدربوا في مخيمات المنظمات الفلسطينية في لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الامريكية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الاسرائيلي في اسطنبول. ووقع الانقلاب الثالث في سبتمبر1980 في ظل ظروف داخلية مماثلة لكن في وجود اصابع خارجية واضحة, حيث اعلنت عنه واشنطن حتي قبل السماع عنه في انقرة. وحكم قائد الانقلاب كنعان ايفرين البلاد سبع سنوات رئيسا للجمهورية بعد ان صاغ دستورا غريبا مع بنود ومواد تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستورية الي الابد. ولم تفلح محاولات جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا البلاد بعد ذلك بمن فيهم الذين استهدفهم الانقلاب العسكري ومنهم سليمان ديميريل وبولنت اجاويد ونجم الدين اربكان في تغيير هذه المواد والمواد الاخري المناقضة للديمقراطية. انقلاب شفهي اما الانقلاب الرابع فوقع في فبراير1997 وكان شفهيا الي حد كبير حيث اكتفي فيه الجيش بإنزال الدبابات الي شوارع في أنقرة ليضطر رئيس الوزراء نجم الدين اربكان الي الاستقالة, قبل ان يصل الجيش الي مقر رئاسة الحكومة. وأهم مايميز تلك الانقلابات هو أنها تفاعلت بقوة مع الصراع العلماني الاسلامي, ليبقي دور الجيش متعاظما حتي بدأت محاولات تركيا الحصول علي بطاقة العضوية في الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي نهاية عام.1998 ومن هذا الوقت بدأت إعادة نظر في دور الجيش لتتماشي تركيا مع المعايير الغربية. وهو الأمر الذي تزايد خلال عهد حكومة رجب طيب أردوغان. وقد انحسرت نسبيا صلاحيات الجيش ومجلس الامن القومي الذي تقلص فيه وجود العسكريين وبدأت حملة الإصلاحات التي سميت بالديمقراطية بالتعديلات الدستورية والقانونية التي استهدفت سلطات وصلاحيات الجيش في الحياة السياسية. ونجحت حكومة أجاويد ومن بعدها حكومة أردوغان في تمرير هذه الإصلاحات بفضل مرونة قائد الجيش السابق حلمي أوزكوك. حسم المواجهة وحسمت حكومة أردوغان معركة التعديلات الدستورية ووضعت حدا شبه نهائي لدور العسكر في الحياة السياسية حيث أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومي9 مدنيين مقابل5 من العسكريين بعد ان كان عدد المدنيين4 منذ تأسيس المجلس قبل74 عاما. كما لم تعد قرارات المجلس ملزمة للحكومات وأصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع رئيس الوزراء. وتم أيضا وضع تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوي التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفي مقدمتها رجال الاعمال الكبار ووسائل اعلامهم.