منذ بدأت صاحبة الجلالة رسالتها النبيلة على أرض هذا الوطن . دفعت غاليا الثمن . وعرف شارع الصحافة فى مصر أبطالا لم يرهبهم سيف ولم يترددوا فى مواجهة الظلم . دفع شرفاء الصحفيين وأرباب القلم الثمن .. وكان منهم من تعرض للترشيد . والارهاب والسجن ، لكن النهاية كانت دائما لصالحهم . فقد ذهب الذين ظلموا وبقيت ذاكرة الصحافة مضيئة بنجومها وأشرافها وبقيت الرسالة الصحفية النبيلة . بقيت الكلمة . وذهب الذين حاولوا وأدها !
كان محمد التابعى . ومايزال رغم رحيله . أمير الصحافة فى مصر ..
عاش حياة طويلة عريضى. وخاض معارك صحفية وسياسية كثيرة. وذاق عسل الصحافة وأكتوى بنارها .
وكان التابعى صاحب قلم رشيق . لكنه فى نفس الوقت قلم محارب عنيد .
وبسبب هذا القلم دخل أمير الصحافة السجن مرتين !
وكان ذلك فى عهد الملك فؤاد ..
وفى عهد الملك فؤاد لم يدخل السجن من الصحفيين والكتاب غير ثلاثة . عباس محمود العقاد وتوفيق دياب ومحمد التابعى .
وكان لسجن كل واحد منهم قصة مثيرة.
كان عباس محمود العقاد رجلا صعبا عنيدا لم يتحيز فى حياته قط لانسان أو قوة . وكانت له من البداية مواقف ثائرة معترضة جريئة . كان لها دوى كبير وأصداء عميقة.
ذات يوم ..
وقف العقاد يتحدث فى مجلس النواب وكان أحد نواب المجلس ..
وأخذته الحماسة ..
فصاح بصوته الجهورى : أن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس فى الدولة!
وما أن نطقها حتى ساد الوجوم قاعة المجلس من المفاجأة..
ان أكبر رأس فى الدولة هى رأس فؤاد ملك البلاد !
وها هو النائب العقاد " المتهور " يعلن صراحة وبصوت جهورى أن مجلس نواب مصر قادر ومستعد للقضاء على رأس الملك !
لكن صمت النواب الذى أحدثته المفاجأة سرعان ما تحول الى ثورة وهياج !
بعض النواب انفعلوا بجرأة العقاد .. وصاحوا يؤيدونه فى انفعال ..
بعض النواب غضبوا وثاروا من أجل الملك . ووقفوا عن مقاعدهم ينددون بالعقاد وبما قاله !
وهنا اضطر ويصا واصف رئيس مجلس النواب . لأن يدق بعنف بيده على المنصة .
وصاح بصوت عال : لا.. لا.. لا.. أنا لا أسمح بهذا !
وكان يقصد بأنه لا يسمح بعبارة العقاد العنيفة .. وطلب ويصا واصف من سكرتارية المجلس عدم اثبات ما قاله العقاد فى محضر الجلسة .. ثم رفع جلسة مجلس النواب فى الحال !
ولم تمض سوى دقائق حتى بدأت زلازل كلمة العقاد !
ما كاد ويصا واصف رئيس مجلس النواب يغادر القاعة ويصل الى مكتبه . حتى دق جرس التليفون . وكانت المكالمة من قصر عابدين .
وسمع ويصا واصف من يقول له على الناحية الأخرى : صاحب الجلالة الملك يستدعيك فورا لمقابلته فى القصر.
وأسرع رئيس مجلس النواب للقاء فؤاد .
وحاول أن يهون ما حدث فى المجلس ويهدىء من ثورة الملك على العقاد .
- وقال له : عباس العقاد أحد عبيد مولانا المخلصين !
• ورد عليه الملك فؤاد : لكنه عبد خطر !
ويقول التابعى ان النيابة العمومية بدأت تحقق مع عباس العقاد . وانتهت الى اتهامه بتوجيه تهمة العيب فى الذات الملكية للنائب المتهور . الذى هو فى نفس الوقت عملاق الأدب !
وأحيل العقاد الى محكمة الجنايات ..
وأخذت قضيته تتأجل أكثر من مرة بناء على طلب الدفاع عنه والسبب أن الدفاع كان يريد احالة القضية الى دائرة أخرى . غير الدائرة التى ستنظرها .
وكانت هذه الدائرة معروفة بقسوة أحكامها . وبأن رئيس هذه المحكمة كان على صلات قوية مع كبار رجال السرايا وحاشية الملك فؤاد !
ونجح دفاع العقاد فى خطته ..
ونظرت القضية أمام محكمة أخرى .. أصدرت حكما بحبس عباس العقاد مع الشفل تسعة شهور !
هكذا دخل العقاد " سجن مصر " ..
وفى ذلك الوقت كان نزلاء هذا السجن وكل السجون . يشتكون من صعوبة أحوال العيش فى الزنزانات فى فصل الشتاء البارد .
وفى السجن ..
شكا العقاد من البرد وقال أنه مريض . وتم استدعاء طبيب السجون الذى فحصه وأيد شكواه .
وذكر أن زنزانة العقاد ذات نافذة مفتوحة الا من القضبان الحديدية. ومنها يتسلل البرد الذى يشكو منه العقاد !
وظلت مشكلة نافذة زنزانة العقاد موضوع مكاتبات عديدة بين مصلحة السجون ووزارة الحقانية " العدل " التى تتبعها السجون . حتى وافق وزير الحقانية فى النهاية على تغطية نافذة زنزانة العقاد بألواح من الزجاج . تفتح وتغلق حسب حاجته وطلبه !
فماذا فعل "السجين العقاد " تجاه هذا القرار "الكريم"؟
ذات يوم ...
ذهب وزير الحقانية على ماهر باشا ليزور سجن مصر ..
وفتح الحارس باب زنزانة العقاد ..
وصاح بصوت مرتفع : معالى الوزير !
وكان العقاد فى تلك اللحظة ممددا على فراشه بالزنزانة ..
وعندما سمع العقاد صياح الحارس .. أسرع بوضع ساق فوق ساق ..
وتعمد أن تكون قدماه فى وجه معالى الوزير مباشرة فور أن يدخل الزنزانة !
ودخل الوزير من باب الزنزانة ..
لكن العقاد ظل على رقدته على الفراش لا يتحرك .. وهو يضع ساقا فوق ساق !
كان المشعد عجيبا ..
وزير العدل يقف على بعد خطوة من داخل الزنزانة . ومن خلفه كبار رجال وضباط مصلحة السجون..
والعقاد على وضعه يثنظر الى سقف الزنزانة .. وكأنه لا يرى الوزير الذى دخل الزنزانة !
وهنا قال على ماهر باشا وزير الحقانية للعقاد .. نهارك سعيد يا استاذ عقاد ..
لم يرد العقاد عليه !
قال له على ماهر باشا : عندك شكوى يا أستاذ من أى حاجة ؟
ظل العقاد على صمته ..
عاد وزير الحقانية ليساله : لك طلبات يا أستاذ عقاد !
ظل العقاد صامتا كأنه تمثال من صخر . لا يسمع ولا يرى ولا يتحرك أو حتى "يرمش" !
فلم يجد الوزير على ماهر باشا أمامه سوى أن يستدير ويغادر زنزانة هذا الصامت .. صامتا هو الآخر !
وأغلق الحارس باب الزنزانة على العقاد !
وقد اهتمت الصحف المصرية بقصة القبض على عباس محمود العقاد وسجنه ومحاكمته . وحملت مجلة "اللطائف المصورة " صورة فوتوغرافية نادرة للعقاد جالسا على مقعد . وكتبت تقول : "الكاتب الكبير والنائب المخترم الاستاذ عباس محمود العقاد . الذى استدعته النيابة صباح 14 الجارى للتحقيق معه فى شأن مقالات كتبها فى المؤيد الجديد .. ثم صدر الأمر باعتقاله فى سجن مصر فنرجو له فرجا قريبا "!
وعادت "اللطائف المصورة " لتنشر فى عدد آخر صورة للعقاد . وكتبت تقول : الكاتب الكبير الاستاذ عباس محمود العقاد . الذى أدت به كتاباته الى غياهب السجن . وقد تحدد يوم 8 ديسمبر المقبل للنظر فى التهم المنسوبة اليه . فنرجو له فرجا قريبا . مغتنمين هذه الفرصة للاعراب عن شديد تألمنا ، لما أصابه ولمعاملته فى السجن . وهو متهم سياسى . معاملة المجرمين العاديين . دون أن تراعى فى ذلك مكانته الأدبية وحالته الصحية .
وعلى صفحتها الأولى من عدد الاثنين 15 ديسمبر سنة 1930 نشرت "اللطائف المصورة" صورة معبرة للعقاد وقد اقتيد من سجنه الى مبنى المحكمة لمحاكمته . وكتبت تحتها تقول : " الكاتب الكبير والصحفى المعروف الاستاذ عباس محمود أفندى العقاد . يهبط من السيارة التى جاءت به من السجن الى المحكمة . وقد ذكرت الصحف أن صحته ساءت . شفاه الله.
وأضافت " اللطائف " : عرضت على محكمة الجنايات يوم الاثنين فى 8 ديسمبر الجارى قضية جريدة المؤيد الجديد . المتهم فيها كل من الاستاذ محمد أفندى فهمى الخضرى والأديب الكبير عباس محمود العقاد أفندى . لنشرهما فى تلك الجريدة مقالات عدتها الحكومة عيبا فى الذات الملكية بقلم الأستاذ العقاد . وحملت مسئولية ما نشر للاستاذ الخضرى مدير الجريدة .
ووصفت "اللطائف" ما حدث يوم المحاكمة قائلة : وقد ازدحمت المحكمة فى الداخل والخارج بالجماهير . واتخذ رجال البوليس الاحتياطات اللازمة . وجىء بالاستاذ العقاد من سجنه . وحضر للدفاع عن المتهمين المجاهد الكبير الأستاذ مكرم عبيد بك والأستاذ محمود الغنام ، وطلبا التأجيل ليتمكن الأستاذ مكرم بك عبيد والأستاذ محمود الغنام من اعداد الدفاع . فأجابت المحكمة الطلب وأجلت القضية الى يوم 21 ديسمبر الجارى.