واليوم أروي ما تعيه الذاكرة مما سمعته في السجن عن فقيد الأدب والعلم المرحوم عباس محمود العقاد.. وكان العقاد يرحمه الله شجاعا شديد الاعتزاز بنفسه عمره ما طأطأ رأسه أمام مخلوق. وقف في مجلس النواب مرة وصاح بصوت جهوري (إن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأي في الدولة). وهاج المجلس، وعلا الصياح بين استحسان واستنكار. ودق رئيس الجلسة - المرحوم ويصا واصف الذي كان يومئذ رئيسا لمجلس النواب - دق منضدة الرياسة بيده دقا عنيفا وهو يصيح.. - لا.. لا.. لا.. أنا لا أسمح بهذا، وأمر سكرتارية المجلس بعدم اثبات ما قاله عباس العقاد في محضر الجلسة. ثم رفع الجلسة ولم يكد رئيس مجلس النواب يستقر في مكتبه حتي دق جرس التليفون.. وكانت (السراي) علي الخط.. - صاحب الجلالة الملك يستدعي فورا معالي رئيس مجلس النواب لمقابلته.. وتمت المقابلة.. وسمعنا بعدها شيئا مما دار بين أحمد فؤاد والمرحوم ويصا واصف. سأله أحمد فؤاد.. عما حدث في جلسة اليوم؟ وأراد ويصا واصف أن يهون من الأمر، وأن يهديء من غضب (رئيس الدولة) فقال ما معناه أن عباس العقاد أحد عبيد مولانا المخلصين. وقال أحمد فؤاد.. - ولكنه عبد خطر.. أو كلاما في هذا المعني.. وحققت النيابة العمومية مع عباس محمود العقاد. وانتهي التحقيق بتوجيه تهمة العيب في الذات الملكية الي النائب الجريء الشجاع.. أي عملاق الأدب الذي فقده العالم العربي منذ أيام. ومثل العقاد أمام محكمة الجنايات.. وتأجلت القضية مرارا بناء علي طلب الدفاع وكان الدفاع يريد أن تنظر القضية أمام دائرة أخري غير هذه الدائرة التي كانت معروفة بقسوة أحكامها، وبأن رئيسها - رحمه الله - كان علي صلات طيبة مع كبار رجال السراي.. أي كبار حاشية أحمد فؤاد.. ونجح الدفاع في خطته.. ونظرت قضية العقاد أمام دائرة أخري.. وصدر الحكم بالحبس مع الشغل تسعة شهور. ودخل العقاد السجن - سجن مصر أو قرة ميدان كما هو معروف عند سواد الشعب - دخله في فصل الشتاء والبرد. وشكا عباس العقاد من شدة البرد وقال انه مريض، وجاء طبيب من مصلحة السجون وأيد العقاد في شكواه، وكانت (زنزانة) العقاد - مثلها مثل سائر حجرات وغرف السجن - ذات نافذة مفتوحة إلا من القضبان الحديدية. وبعد مكاتبات ومفاوضات بين مصلحة السجون ووزارة الحقانية (العدل) التي كانت السجون تتبعها في ذلك الوقت وافق (معالي) الوزير علي تغطية النافذة بألواح من الزجاج تفتح وتغلق حسب الحاجة. وذات يوم ذهب معالي الوزير - وكان الرئيس السابق المرحوم علي ماهر (باشا) - يزور سجن مصر.. وفتح الحارس باب زنزانة عباس العقاد..وهو يعلن بصوت عال (معالي الوزير). وكان العقاد متمددا فوق فراشه.. وهنا تعمد العقاد رحمه الله أن يضع ساقا فوق ساق..و أن تكون قدماه في وجه معالي الوزير. ولم ينهض.. تحية واحتراما للزائر الكبير. وقال علي ماهر رحمه الله.. و كان يقف وراءه بعض كبار موظفي مصلحة السجون وضباط السجن.. قال: - نهارك سعيد يا أستاذ عقاد. ولم يرد العقاد.. - عندك شكوي يا أستاذ من أي حاجة.. ولم يرد العقاد.. وعاد وزير الحقانية يسأل.. - لك طلبات يا أستاذ عقاد.. سكوت.. وعدم رد. وانصرف الوزير.. وأغلق الحارس باب الزنزانة. وأخيرا.. قرأت في صحف يوم الجمعة الماضي اقتراحات وجيهة لزملاء أفاضل في تخليد وتكريم الأديب الكبير الذي فقدناه. وأقدم بدوري اقتراحا متواضعا. لقد أقام العقاد معظم سني حياته في مصر الجديدة في العمارة رقم 31 شارع السلطان سليم. اقترح أن يستبدل باسمه اسم عباس محمود العقاد. والعقاد عندنا وعند الأمة العربية أفضل ألف مرة من أحد سلاطين آل عثمان. آخر ساعة: 81 مارس 4691