الثورة وإرادة الشعوب .. جوهر منحوتاتي علي حبيش محيط - رهام محمود قامت ثورة يوليو على مباديء عظيمة منها المساواة ومحو الظلم والاستبداد واحتكار الثروة في يد فئة محدودة من المصريين ، وقد تأثر الأدباء والفنانون المصريون بل والعرب أيما تأثير بعهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وثورة الضباط الأحرار . وتلتقي شبكة الإعلام العربية "محيط" واحدا من أبرز التشكيليين المصريين الذين عبرت ريشتهم عن الثورة المصرية .. إنه الدكتور علي حبيش ، والذي لم يكن فنانا فحسب بل كان له دور سياسي وكان أمين التنظيم بالحزب الناصري وكان من اول من خرج بالثورة للشوارع في شبابه .. محيط: كيف أثرت ثورة يوليو على إبداعاتك الفنية؟ د. حبيش: الثورة أثرت في جميع الاتجاهات، سواء كانت سياسية، تعليمية، أو اجتماعية في مصر والعالم العربي، ودول العالم الثالث وأفريقيا أيضا . كما أثرت على كل حركات التحرر في دول العالم كله حتى في أمريكا اللاتينية، وكانت مصر في قمة المجد الثوري والسياسي في هذه الفترة "الستينات" ؛ فالخطط الخمسية التي كانت مصر تنفذها لم نشاهدها لطيلة ثلاثين عاما تلت الثورة ، وكانت هناك حركة للبناء والتعمير والنهضة عالية ، إلى جانب تقدم الفكر والفن. منحوتة الشهادة أذكر أنني كنت أمين التنظيم في الحزب الناصري، وعملت بالسياسة كثيرا، وكان من أساتذتي كمال الدين حسين عضو مجلس إدارة الثورة، خالد محي الدين، وكثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة، كما جمعتني صداقة بمحمد فوزي وزير الحربية الذي شهد الثورة ، وكذلك محمد فاروق عضو مجلس إدارة قيادة الثورة . تربيت في هذا المناخ، وعشت على أحلام الثورة ، فكنت حينها أرسم صورا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان يرسل لي خطابات، وحينما كنت في المرحلة الإعدادية كان يثيرني أن أرى صورة لعبد الناصر تلقى على الأرض، فكونت ألبوما من هذه الصور احتفظ به حتى الآن، وأعتقد أنه كان أمل مصر والوطن العربي في هذا الحين . وقد أقيمت مسابقة رسم في كليتي بينما أنا في المرحلة الثالثة ، وكانت تدور حول إنجازات الثورة ، وحصلت على الجائزة الأولى في النحت في معرض منجزات الثورة ، وكانت منحوتتي بارزة وتتناول شخصية عبدالناصر . وفي حرب تحرير السويس قدمت لوحة مستلهمة من قصة تتحدث عن رحيل شاب مسيحي ، وهذا التمثال – بخامة البرونز- يعرض حاليا في قاعة المؤتمرات الدولية بمدينة نصر، إلى جانب أعمال تدل على الحرية، الثبات، مصر المتحررة القائدة لحركات التحرر في العالم العربي بأكمله. اهتممت في معظم أعمالي بالقضايا الكبرى كالانتفاضة الفلسطينية ، وتناولتها بأسلوب يحمل الأصالة والمعاصرة، لم يكن محاكاة مباشرة للواقع بشكل كامل، بل أحاول تطوير الشكل إلى الحديث، كما أنني سميت بفنان الانتفاضة، وقابلت الزعيم الراحل ياسر عرفات في معرض "الانتفاضة" بالقاهرة، وكان صديقا لي هو والوزير أبو عمار، وفاطمة البرماوي ومجموعة كبيرة من المناضلين، لأنني قدمت الكثير من الأعمال عن الثورة الفلسطينية والانتفاضة .إلى جانب أنني قدمت بعض الأعمال عن "الشهادة" و"ام الشهيد" . منحوتة الصراع العربي الإسرائيلي محيط: حدثنا عما أنجزه الفنانون في فترة الثورة؟ د. حبيش: الثورة لم تفرض أسلوبا معينا على الفنانين، لكن مجمل الإنجازات الهامة وحركة التحرر التي كانت تقودها مصر في العالم دفعت جميع الفنانين لتناول الأعمال الوطنية نتيجة انفعالهم بهذا الحدث . وحتى بعد وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، عبروا عن كل المواقف السياسية في أعمالهم الفنية، بأسلوب يبقى كمعاناة الإنسان نفسه وبحثه عن الحرية وليس بأسلوب مباشر كالتغطية الإعلامية التي تنتهي ، مثلما أبدع بيكاسو "مأساة كوريا، وجورنيكا" اللتان عبرتا عن حركات التحرر ومعاناة الشعوب المستعمرة. محيط: من أبرز الفنانين الذين تأثروا بالثورة؟ د. حبيش: الفنان جمال السجيني، محمود مختار، عبد الهادي الجزار، حامد ندا، حسن خليفة، أحمد أمين عاصم وغيرهم الكثير من المصورين والنحاتين كانوا يعبرون عن آمال الجماهير، والتي حققته الثورة فيهم بوجود حركة فنية كبيرة في الوطن العربي والتي تقودها مصر حاليا، فمصر من أعظم الدول في مجال الفنون، تسبق الرياضة وغيرها من المجالات الأخرى . حينما يعرض الفنان المصري أعماله بالخارج غالبا ما تفوق الأعمال الأوروبية في إعجاب الجماهير ، لكن الإعلام في مصر لا ينتبه لهذه النقطة، أو لا يوجد "الوكيل الفني" الذي يستطيع تسويق الفن بشكل جيد. محيط: في رأيك ما الأثر الذي خلفه الفن للجماهير في هذه المرحلة ؟ الفلاح المصري د: حبيش: الفن التشكيلي هو الأقرب في التأثير على الجمهور، وخصوصا النحت المجسم؛ لأنه يعتبر قناة تعليمية بالنسبة للجمهور، فحينما نرى تمثال سعد زغلول على سبيل المثال الذي أبدعه المثال محمود مختار وما شكل حوله من نحت بارز، نتذكر العدالة، الدستور، الفلاح، الصناعات، فيصبح بذلك التمثال كقناة تعليمية تعلم الأشخاص بشكل غير مباشر لا ينسى، بل يلتصق في أذهان الأطفال حينما يتعرفون على الشخصية ممثلة بتمثال في الشارع أكثر مما يقرأ عنها في كتاب . كما نتذكر الفن الفرعوني صاحب فلسفة الخلود ، وهو فن ديني جنائزي تعامل مع أصلب الأحجار للدلالة على الأبدية التي كانوا يعتقدون فيها ، فهو فن مؤثر لأنه ينبع من فلسفة هذا الوطن . وكذلك الفن الحديث فإذا كان ينبع من جذورنا التاريخية والسياسية والاجتماعية سيصبح فنا ناجحا جدا، يعبر عن آمال الجماهير. محيط: حدثنا عن تطورك الفني عبر سنوات عمرك ؟ منحوتة زهران شهيد دنشواي د. حبيش: بحثت كثيرا في النحت الأفريقي، ووجدت أنه اجتاح كل أوروبا وأثر فيها بشكل مباشر، فحينما حضر الاستعمار استعمرنا سياسيا، ولكننا استعمرناه ثقافيا وهو الأقوى تأثيرا. أثر أيضا الفن الإفريقي على كل فناني العالم في مجال الموسيقى والنحت والتصوير؛ ولذلك بحثت عنه، وكانت رسالة الماجيستير الخاصة بي عنه، كما أنني تناولت الفن الإفريقي من خلال نحت الأخشاب. بعد ذلك عبرت عن السمات الشعبية في النحت المصري المعاصر التي يتناولها النحات الشعبي "كالخواجة، البرونز، ضرب النار، النحت البارز على بيوت الفلاحين والمقابر، السلالم التي يبنيها البناؤون على شكل منحوتات، منحوتاته على الأخشاب، والتماثيل الشعبية وعلاقتها بالأساطير" فكيف كان النحت مقاوما في العدوان الثلاثي، وكيف كان الفنان الشعبي يصنع دمية "اللمبي" التي ظهرت في مدن القناة بعد الانتصار، وكيف يتخذون من النحت أسلوبا للنضال الشعبي، وقد بحثت أيضا في ذلك، وبدأت منحوتاتي تستلهم الجذور الشعبية، ثم انتقلت إلى المعاصرة. منحوتة الحرية تناولت أيضا أعمال طرق المعادن والحديد، وتنوعت الخامات التي استخدمتها كالأحجار والبوليستر والأخشاب، وفي الفترة الأخيرة قمت بعمل منحوتات كبيرة الحجم يصل ارتفاعها إلى 9.5 متر في سمبوزيوم "مدينتي"، إلى جانب سمبوزيوم الإسكندرية الدولي، الذي أبدعت فيه تمثالا من الخشب، عبارة عن صقر يحمي شخص بأسلوب معاصر. في عام 2000 كنت رئيسا لقسم التربية الفنية في كلية البنات بجامعة الإمارات، وخرجت على يدي مجموعة من الفنانات التشكيليات الإماراتيات، أصبحت مميزات في مجال النحت والتصوير. محيط: ما رأيك في الحركة التشكيلية حاليا مقارنة بعصر الثورة ؟ د. حبيش: في عصر الثورة كان هناك اهتمام بالفن وينفق عليه جيدا ، أما الآن فهذا لا يحدث وينفق أغلب رجال الأعمال على مشاريع تحقق الربح المادي وحده ، فهم ليس لهم اهتمام بالثقافة . ووقت الثورة كان الفنانون يرسلون من قبل الدولة لبعثات في الخارج وغاب هذا أيضا حاليا . وأصبح الفن المصري غير مرتبط بالقضايا الوطنية فبدا كفانتازيا أكثر منه يرتبط بجذورنا ، رغم أن الفن هو طليعة النهضة . فنهضة أوروبا مثلا بدأت بالفنون "فنون عصر النهضة" ، ولذلك فالاستعمار حينما يضرب البلد ثقافيا يصيبها أكثر مما يصيبها عسكريا . منحوتة جمال عبد الناصر أتمنى أن يدعم رجال الأعمال المصريين الفنون التشكيلية ليدركوا أنها الثورة الحقيقية لمصر، فأكثر من ثلثي السياح يأتون تأتي لرؤية آثارنا، فأين الفن المصري المعاصر ليستكمل الخط الثقافي الذي بدأه الفراعنة. محيط: هل أثر عملك الأكاديمي على إبداعك؟ د. حبيش: الدور الأكاديمي يكمل حركة الإبداع، فالدراسة الأكاديمية تنمي الموهبة، كما أن التدريس في الجامعة لا يعطل الفنان عن ممارسة إبداعه بل يضيف إليه؛ لأنني كلما نظرت لتجارب الطلبة أعطي لهم خبرتي وأكتسب وجهه نظرهم والحداثة عندهم، وأنا أتعايش مع طلبتي تماما في الكلية واستضيفهم بمرسمي في المنوفية ليرسموا وليقرأوا بمكتبتي.