موسوعة الرد على الفكر التكفيري من أهم إنجازات دار الإفتاء المصرية منهج الإفتاء يربط بين الماضي والحاضر ويراعي المستقبل دراسة التراث تفيد الطالب في اكتساب ملكة اللغة العربية وحصول الملكة الفقهية الدكتور أحمد ممدوح سعد أمين الفتوى ومدير إدارة الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية، أخرج مؤخرًا سلسلة من الأعمال المنهجية التي عرضت على الرأي العام المصري والعالمي وأحدثت تأثيرًا إيجابيًّا. اعتبر "سعد" أن تجديد الخطاب الديني من أهم مهام الأزهر الشريف في هذا التوقيت. وأكد في حوار له مع شبكة الإعلام العربية "محيط" حرص دار الإفتاء المصرية على تعليم النشء من الشباب عدم تقديس التراث لدرجة المعصومية ولا إهماله وغض الطرف عنه نهائيًّا. وتحدث أمين الفتوى، عن مهام إدارة الأبحاث الشرعية التي يتولى إدارتها والتي أسسها المفتي السابق الدكتور علي جمعة كإدارة مستقلة من الإدارات الشرعية بدار الإفتاء. وإلى التفاصيل: ما هي مشكلات الإفتاء في مصر؟ الفتوى عبارة عن مهارة تنزيل الحكم الشرعي على الواقعة المعينة، وتحصيل هذه المهارة يحتاج إلى خبرة وفطنة وتدريب؛ لأن الفتوى قد تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة؛ والواقع له عوالم خمسة، وهي عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث، وعالم النظم، فيجب على المفتي أن يعرف منها ما يتعلق بالفتوى التي هو بصددها. ومن هنا قالوا قديمًا: "الفتوى صنعة"، أي أنها أمر مركب، لا يكفي فيه مجرد معرفة الإنسان بالعلوم الشرعية المجردة، بل لا بد أن يضاف إليه الإدراك الصحيح للواقع. ويأتي على رأس المشكلات الرئيسة في مجتمعاتنا الآن تصدر غير المؤهلين للفتوى، والذي تسبب عنه ما عرف إعلاميًّا باسم "فوضى الفتاوى". وهناك مجموعة الأمور التي تعتبر من مشكلات الواقع الإفتائي الآن، والتي دائمًا ما ننبه عليها المشتغلين بالفتوى في المناسبات المختلفة؛ لكي نؤكد عليهم ضرورة مراعاتها؛ لأنه قد يقع فيها المفتي إذا لم يكن واعيًا ومنتبهًا لها. مثل ماذا؟ عدم التفريق بين المسائل التي يصح أن يفتي فيها بحكم على المستوى الفردي، ولا يصح أن يفتي بنفس الحكم على مستوى المجموع أو الأمة. ومثل تجنب الإفتاء في المسائل المبنية على عرف قد تغير بنفس الحكم الذي كان يفتى به في ظل وجود العرف القديم. ومثل عدم التدقيق في النظر لمآلات الفتوى. ومثل الإفتاء على خلاف مقتضي القانون في المسائل الخلافية، أو التي هي من قبيل المصالح المرسلة، والتي اختار القانون المعمول به في البلاد رأيًا من آراء المجتهدين، أو قيد فيها المباح، على وجه الإلزام. ومثل الإفتاء في المسائل النزاعية دون سماع لأطراف المشكلة، والاقتصار على سماع وجهة نظر طرف واحد. ومثل الإفتاء في المسائل النزاعية المنظورة أمام الدوائر القضائية. وماذا عن الاهتمام بشئون الأقليات؟ الأقليات لهم فقه نوعي، ينظر فيه إلى خصوصيات معينة قامت بهم، قد تلجئ المفتي إلى الإفتاء بحكم مختلف يصلح لهم وقد لا يصلح لغيرهم ممن يقيم في بلاد يكون الغلبة فيها والأكثرية للمسلمين، وهذا من تطبيقات تغير الفتوى بتغير المكان. وهذا الفقه مع ما له من خصوصية، إلا أنه ليس خارجًا عن إطار الفقه الإسلامي، والمصادر واحدة، وأصول الاستنباط لا تختلف، وكثير من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها في كتب الفقه التراثية. وقد اتخذت دار الإفتاء المصرية عددًا من الإجراءات التي يمكن أن تخدم بها الأقليات المسلمة وتقوم بموجبها بالواجب التوعوي المطلوب في نشر الوسطية الدينية والمفاهيم الإسلامية الصحيحة بشكل يحفظ عليهم هويتهم الإسلامية ولا يجعلهم يذوبون في الآخر وثقافته، ولا يمنعهم في نفس الوقت من التعايش والاندماج في أوطانهم أو البلاد التي يعيشون فيها. هل تذكر لنا عددًا من تلك الإجراءات؟ ومن تلك الإجراءات، تخصيص قسم معين لتلقي أسئلة الأقليات عن طريق البريد الالكتروني ومن ثم التواصل معهم والإجابة عن أسئلتهم. وإصدار كتاب (سؤالات الأقليات)، والذي اشتمل على دراسة لفقه الأقليات وتأصيل لضوابطه وبيان مرتكزاته، وكيفية معالجة مسائله، ثم انتخاب جملة كبيرة من أهم الأسئلة التي وردت إلى دار الإفتاء المصرية من المسلمين في الخارج، وتأصيل الأجوبة عنها بما يحقق التوازن المطلوب. وكذلك قد اعتنت دار الإفتاء المصرية بتدريب المفتين من البلاد المختلفة وعقدت عددًا من الدورات المكثفة لبعض الوفود الأجنبية من بلدان مختلفة، ومن هؤلاء: أئمة وباحثون شرعيون ومفتون وموظفون دينيون كبار، وذلك في بعض المهارات المتعلقة بالإفتاء، والبحث، والفقه والأصول بحيث يخدمهم ذلك فيما هم متصدرون له ومقبلون عليه. وهل كانت هناك نشاطات تدريبية قريبة مع بعض هذه الأقليات؟ نعم.. كان آخرها دورة للطلاب التايلنديين في دار الإفتاء المصرية، وقد اعتمدنا في هذه الدورة على تدريس بعض الأبواب الفقهية المتعلقة بأحكام الأسرة، وذلك من أحد الكتب التراثية في الفقه الشافعي. لماذا الفقه الشافعي؟ لأنه المذهب الشائع المعمول به في تلك البلاد، واخترنا أحكام الأسرة لكونها أمس بالواقع العملي وحياة الناس منها بغيرها من بعض أبواب الفقه. وحرصنا في تلك الدورة على المزج بين الأصالة والمعاصرة؛ فاعتنينا بتفهيم العبارة التراثية وتحليلها؛ لأنها تعلم الطالب الدقة الشديدة؛ حيث كان العلماء السابقون يراعون ذلك على مستوى الحرف، وكذلك تفيد الطالب في اكتساب الملكة اللغوية، وتحدث عنده أنس بعبارات الفقهاء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: عملنا على ربط الأحكام المقررة في الواقع القديم بالواقع الحالي، وبيان مدى التغاير، وسببه، وذكر النظائر والبدائل المعاصرة. مع الحرص الشديد على تنبيه الطلاب على فلسفة المسائل، والأصول الفقهية المستبطنة عند تقرير الحكم الشرعي في كل فرع من فروع الفقه، وكذلك تعليمهم ألا يقفوا عند مسائل الماضي ولا يجاوزوها، وأنه ينبغي عليهم أن يستعملوا المناهج المستخلصة منها، وأن يتجاوزوا الإغراق في الكلام على الجزئيات إلى مستوى التجريد والتقعيد والكليات. برأيك لماذا هذا التناقض المثار بين الأصالة والمعاصرة؟ لا يوجد تناقض برأيي، بل إن هناك تقاطعًا كبيرًا، وعددًا لا يستهان به من الدوائر التشغيلية المشتركة، ولكن القطيعة هذه قد تكون على المستوى الجزئي عند بعض الأشخاص؛ إذا اكتفوا بمجرد الاحترام والوقوف عند القديم وأصروا على عدم تجاوزه وترك التطور والتطوير. وقد تكون القطيعة أيضًا على مستوى من يريد أن يهدر تلك الجهود الجبارة التي سبق أن أداها العلماء السابقين، وأن يمارس الاجتهاد رأسًا واستقلالاً، وتأسيسًا لا بناء، ويكون في غالب الأحيان للأسف أقل من أن يتجاسر على هذه المرتبة الجليلة لقلة بضاعته وضعفه العلمي الظاهر. من المنوط به القيام بهذه التوأمة؟ المنوط به ذلك كل من انتسب للجماعة العلمية من العلماء والمشايخ والفقهاء، والذين تضمهم المؤسسات الدينية، والمؤسسة الدينية في مصر يأتي على رأسها الأزهر الشريف، ثم تأتي دار الإفتاء المصرية، ووزارة الأوقاف، والجامعة الأزهرية، فأولئك جميعًا هم المعنيون بقضية تجديد الخطاب الديني. كيف يثق الشباب في العلماء وأهل الدين وهناك حالة تشبه القطيعة بينهم وخاصة في ظل اتهامات للعلماء بأنهم لا يعبرون عن قضايا عصرهم والقضايا التي تهم الناس بشكل أساسي؟ أظن أن هذا الوصف للواقع مبالغ فيه، وإن كنت لا أنكر أن هناك شيئًا من الجفوة. والمخاطب بهذا السؤال في الحقيقة ليس جهة واحدة؛ لأن هذا همٌّ مجتمعي وميراث عدة عقود؛ فجماعات الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة لعبت بشكل خبيث في محاولة أن تفقد الشباب الثقة في العلماء المنسوبين إلى المؤسسات الرسمية تحت دعوة أن هؤلاء علماء السلطان وحملة المباخر وشيوخ الحكومة، وغير هذا من العبارات العنترية الاستعلائية المجافية للحقيقة، بهدف تثبيت مرجعيتهم هم عند شباب في مرحلة عمرية يمكن تشكيل قناعاتهم فيها عن طريق الانطباعات. ويمكن العزف على أوتار العاطفة لديهم بسهولة باستخدام العبارات البراقة، والخداع بالمظاهر والشكليات التي توحي بالتدين والورع، ولكن الحقيقة المرة أن هذه الشكليات لم يكن ورائها إلا عقليات "خربة" ونفوس جاهلة مريضة، شوهت الدين، وبغضته إلى الناس، وهددت أمن المجتمع، وبذرت بذور الفتنة والشقاق. فالمخاطب بهذا الملف من وجهة نظري: المؤسسة الدينية من جهة، والإعلام بمنابره المختلفة من جهة ثانية، والدولة بمؤسساتها من جهة أخرى، فهذه الجهات الثلاث عليها أن تبذل قصارى جهدها في سبيل محاولة استرجاع ثقة الشباب في العلماء؛ لأن هذا أمر يمس الأمن القومي والسلام المجتمعي. كيف نعين الدولة على استرداد الريادة في المجال الديني المؤسسي؟ ليست الدولة وحدها المسئولة ولا المؤسسة الدينية بل هذا يكون محصلة مجهودات مجتمعية وهي بحاجة لجهد ووقت وبعد الجهد والوقت نستطيع أن نرى النتائج المرجوة. حدثنا عن مهامك في دار الإفتاء؟ الفقير أحد أمناء الفتوى بدار الإفتاء المصرية، وعضو في لجنة أمانة الفتوى، وهذه اللجنة تضم كبار الأمناء وعملها النظر في النوازل والمستجدات، وإبداء الرأي في الفتاوى الواردة من جهات مهمة أو لها أثر عام، وهي لسان دار الإفتاء والآراء التي تخلص إليها هي التي يلتزم بها سائر الشرعيين بالدار في فتاويهم وإجاباتهم حتى وإن خالفت رأي أحدهم و(مذهبه الشخصي). وماذا عن الإدارة التي تترأسها؟ إدارة الأبحاث الشرعية فقد تم إنشاؤها في سنة 2007م؛ لتكون هناك جهة مستقلة تعمل على مواكبة المستجدات وبيان ما يتعلق بها من أحكام على قانون البحث العلمي. فعملت الإدارة على إنشاء الأبحاث الشرعية المتخصصة التي تخدم العمل الإفتائي؛ سواء على مستوى المسائل أو الموضوعات، وكذلك في تأصيل الفتاوى وتعميقها من الناحية الفقهية، مع الحرص على إظهار الحِرفية العالية في صناعة الفتوى. وكذلك صدر عنها كتاب: "سؤالات الأقليات" الذي سبق الكلام عنه. هذا كله إلى جانب بعض الأنشطة الفرعية التي ساهمت الإدارة فيها بإنتاج بارز في مجال الرد على الشبهات، والكتابة في بعض القضايا الفكرية المعاصرة، وكذلك في مجال الأخلاق والقيم، بالإضافة إلى الترجمة والتأريخ لما يزيد على 100 شخصية علمية من شيوخ الأزهر والمفتين وأصحاب المؤلفات المعتمدة كمقررات دراسية في الأزهر الشريف. والآن تعمل الإدارة على موسوعة للرد على الفكر التكفيري ينتظر أن تنتهي في نهاية العام الحالي بإذن الله تعالى. ما الأبحاث والفتاوى الشرعية التي أخرجتموها؟ أنتجت إدارة الأبحاث الشرعية على مدار هذه السنوات مجموعة من الأبحاث الفقهية والأصولية بلغت 80 بحثًا، ومن هذه الأبحاث ما شاركت به الدار في بعض المؤتمرات الفقهية العالمية، ومنها ما تم تحكيمه ونشره في مجلة دار الإفتاء العلمية المحكَّمة، وذلك في موضوعات مختلفة؛ مثل: استعمال بخاخ الربو للصائم، ورتق غشاء البكارة، وتحريف كلمة الطلاق، والتورق الفقهي والتورق المصرفي، وإسلام الزوجة وبقاء الزوج على دينه، وتأجير الأرحام، ونقل الأعضاء، ومفتي الضرورة، وضوابط الاختيار الفقهي عند النوازل، وهو من أهمها، وقد تعرضنا فيه لكيفية مواجهة النوازل فقهيًّا، والإجراءات العملية التي تدور في ذهن الفقيه أثناء معالجته للنازلة، والقواعد التي يجب أن تراعي عند الإفتاء وغير ذلك، وقد طبع في كتاب مستقل. وأما في جانب الفتاوى المؤصلة فقد أنتجت الإدارة حتى الآن ما يقرب من 600 فتوى؛ طبع بعضها في ضمن موسوعة الفتاوى الإسلامية الصادرة عن دار الإفتاء المصرية في 39 مجلدًا، تم انتقاء حوالي 350 فتوى أخرى منها، وطبعت في 5 مجلدات بعنوان "موسوعة الفتاوى المؤصلة"؛ وكان من أهمها: التوائم الملتصقة، وتوسعة المسعى، وحدود ولاية الأب على ابنته، وتغيير المسلك في الفتوى، تحريف كلمة الطلاق، واستخدام أسلحة الدمار الشامل، والعمليات التفجيرية، واستعمال الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور، والإضراب عن العمل. وكثير من هذه الفتاوى اطلع عليها مجمع البحوث الإسلامية حيث كانت محولة من اللجنة الفقهية به إلى دار الإفتاء للاختصاص، ونالت منه التقدير والثناء؛ حتى إنهم أوصوا بطباعة أحدها كملحق لمجلة الأزهر. كم عدد الباحثين في الإدارة؟ عددهم الآن عشرة من الباحثين المتميزين، وسابقًا كان العدد أكثر من ذلك، ولكن الحال أنه قد خرج من رحم هذه الإدارة عدد من الإدارات الناشئة الجديدة؛ كإدارة الموقع الإلكتروني، وإدارة الفتوى الإلكترونية، وكانت هذه الأعباء من مهام إدارة الأبحاث أولاً، فلما اقتضت الحاجة انفصال هذه المهام في إدارات مستقلة، انتقلت بالباحثين الذين كانوا يعملون ابتداء في هذه الملفات. هل يشرف فضيلة المفتي بشكل مباشر على الإنتاج؟ الإنتاج العلمي لإدارة الأبحاث الشرعية يشرف عليه فضيلة المفتي بشكل مباشر، ويدعمنا بأفكاره واقتراحاته، وتوجيهاته التي تثري العمل ولا شك.