النيل والدلتا ومتغيرات المناخ د. محمد رياض النيل ظاهرة طبيعية ليست موغلة في القدم.. ومصر ظاهرة بشرية انحاز ناسها إلي وادي النيل منذ نحو من خمسة إلي سبعة آلاف من السنين فقط. وفي خلال تلك الفترة القصيرة, كان المسار يختلف نسبيا, خاصة في إقليم أوون منف( عين شمس سقارة, مرورا بالفسطاط والقاهرة التاريخية والعباسية). كما أن رأس الدلتا هاجرت شمالا من نحو شبرا إلي القناطر خلال هذا الزمن, وكذلك كان بحر يوسف فرعا للنيل يمتد من نحو أسيوط شمالا إلي منف والجيزة ربما شمالا حتي منطقة وردان الخطاطبة, وحينما انحدرت مياه بحر يوسف إلي منخفض الفيوم بفعل عوامل طبيعية بشرية أصبح مساره القديم في الجيزة جزءا من الترع الحالية في الغرب كترعة المنصورية ومصرف المحيط, بينما التحم فرع رشيد ببقية المسار عند وردان. أن مياه النيل هي ظاهرة مناخية, وبما أن المناخ ظاهرة متذبذبة وتتغير بوقع بطيء, فقد كان ضروريا أن يتناسب مجهود الناس في الاستفادة منه كمصدر أولي للحياة. ومع تغير تكنولوجيا الإنسان, انتقلت الإفادة من ري الحياض إلي موازنة المياه بإنشاء القناطر, ثم أخيرا بناء السدود لتخزين المياه والإنفاق منها حسب الاحتياج, وكان لهذه التقنية أو تلك جوانبها الحسنة مع أضرار جانبية زادت حدتها كلما ارتفعت التقنية من الإفادة إلي التحكم التام, كما هو واقعنا اليوم. ولأن المياه مصدر ثروة متجددة, فقد وقر في الأذهان أنه يمكن لنا أن نزيد من التحكم ما شئنا, ولكن النيل ليس مصريا خالصا, ولم يعد قادرا علي الوفاء باحتياجاتنا المتزايدة حقولا واستصلاحا ومدنا وصناعة وخدمات المواطنين المتزايدين ليس فقط في الوادي والدلتا, بل أيضا مستوطنات ومدن ومصايف ومشاتي في عمق الصحراء بأنابيب تضخ المياه بطول السواحل الشمالية والشرقية. ومع ذلك لا تفرغ جعبة الناس من أفكار بعضها مفهوم وأغلبها تجعل النيل خارج نطاق الخدمة, كالقول الدارج في تليفونات المحمول. آخر ما قرأت عن خبراء رفيعي المقام مشروعات مستجدة كثيرة علي رأسها ثلاثة موضوعات كبري هي: إنشاء سد( عال) ثان في بحيرة السد العالي, وثانيها إنشاء قناة تجري من فرع رشيد أو نيل الجيزة مباشرة إلي منخفض القطارة لاستخدامه كمخزن مياه زائدة( أين هي؟), وثالثها الإفادة من التجربة الهولندية في حماية شمال الدلتا من الغرق عند ارتفاع سطح البحر, وليسمح لي الخبراء المعنيون ببعض التعقيبات أعتقد أنها موضوعية.. سد ثان في بحيرة ناصر المقترح باختصار, كما ورد, تقسيم بحيرة ناصر إلي بحيرتين ببناء سد في أضيق نقاطها بامتداد كيلومتر بغرض تقليل نسبة التبخر التي تتراوح بين10% وأكثر من سطح البحيرة, فضلا عن حماية جسم السد العالي. وأعتقد أن أضيق نقطة ستكون بين شاترمه والمالكي أو السبوع. ولكي يتم الغرض الثاني يجب أن يكون السد الجديد في حدود ارتفاع السد الحالي(180 مترا كحد أدني) أو أعلي من ذلك بقليل ليجعل مستوي البحيرة الشمالية التي تضغط علي السد الحالي أقل مما هي عليه الآن ربما لا تزيد علي170 175 مترا. وحين تنخفض المياه إلي هذا الحد, فإن مسطح البحيرة الشمالية سيقل تشعبه في الوديان المحيطة, وبالتالي يتحقق الغرض الأول وهو تقليل كمية التبخر بتقليل مساحة المسطح المائي. لكن البحيرة الجنوبية سترتفع إلي حدود الأمان للسد المزمع, وبالتالي ستنساب مياهها إلي مسطح أوسع ومن ثم يزيد التبخر من المسطح الأكبر, خاصة في منطقة متسع توشكي أبو سمبل! ولأن منطقة بحيرة ناصر في مصر وشمال السودان هي منطقة تقول عنها الدراسات المناخية إنها قد تكون قطب الحرارة العالمي, فإن درجة التبخر ستكون كما هي10 12% أو أكثر من كمية مياه البحيرة الواردة مع فيضان متوسط أو عال. الشيء الثاني أن معظم سنوات الفيضان هي علي المتوسط أو أقل بينما القليل هو الفيضان العالي كل بضع سنوات, وبالتالي فإن مسطح البحيرة الحالية هو علي الأغلب أدني من175 مترا, وبذلك ينتفي الغرض من انكماش البحيرة الشمالية في المشروع. ولكن ربما يكون هناك غرض آخر من البحيرة الجنوبية هو توفير منسوب مياه عال نسبيا سواء كان الفيضان متوسطا أو منخفضا من أجل توفير المياه اللازمة لزراعة نصف مليون فدان في توشكي أكبر أو أقل.. فهل هذا وارد؟.. ولماذا؟.. وماذا تجنيه مصر من أرباح زراعية تغطي( علي الأقل) التكاليف العالية الدائمة في هذا المشروع الجنوبي؟ أم هل هناك فكر آخر وراء ذلك مفاده توليد طاقة من مسقط مياه السد المقترح من أجل تغذية المضخات الهائلة في توشكي بالكهرباء الرخيصة, إلي جانب توفير الطاقة للبلاد والقري المزمع إنشاؤها علي ضفاف بحيرة ناصر؟ وأخيرا من أين نمول إنشاء السد المقترح؟.. لقد حفينا ودخلنا حروبا واتخمنا قروضا من أجل بناء السد العالي منذ قرابة40 سنة في وقت هو أرخص بالقطع من وقتنا الحالي بأقل من النصف أو أكثر بكثير!! منخفض القطارة وتخزين المياه مشروع آخر ينطوي علي إنشاء قناة من نيل الجيزة إلي منخفض القطارة لتخزين الفائض من إيرادات النيل لتجديد شباب النهر وخفض معدلات الملوحة في بعض مناطق الدلتا, وأخيرا إنشاء شرايين جديدة للنهر. وهذا المشروع أقرب للخيال العلمي.. فطول القناة المقترحة300 كيلومتر في خط مستقيم, لكنه سيطول بمقدار نحو الثلث في حنيات وثنيات تتجنب الارتقاء المباشر لسطح الهضبة وتتجنب الكثير من الكثبان الرملية الطولية والمتحركة علي طول المنطقة وعرضها, وسوف يحتاج الأمر لمحطات ضخ لرفع المياه من النهر إلي فوق الهضبة واستمرار المياه حتي مصبها في منخفض القطارة. قاع هذا المنخفض الهائل(19,5 ألف كم2+ نحو ثلثي مساحة الدلتا) هو في المتوسط بعمق نحو60 مترا تحت مستوي سطح البحر( أعمق نقطة134 مترا) والقاع مليء بالسبخات وأملاح عديدة وصخور وكثبان وفوالق وحياة برية كلها ستكون بالوعة لأي مياه عذبة تضخها فيه قناة محدودة السعة, بل ربما لا تصل مياهها أبدا للمنخفض إذا قامت مستوطنات ومزارع حول هذه الترعة. وأخيرا أين كمية الفائض من إيرادات النيل؟.. معروف أن لنا حصة ثابتة حتي الآن من مياه النيل(55 مليار متر مكعب) وأن هذه الحصة لا تكفي احتياجاتنا ونعوضها بمياه جوفية في الوادي والدلتا تصل إلي نحو ثلث أو نصف حصتنا.. فأين الفائض إذن؟.. وافتراض بعيد: هل إذا وصلت مياه إلي المنخفض.. هل يمكن استرجاعها بأعتي المضخات وهي بعد شديدة التلوث بأملاح أكثرها لغير الاستخدام الحياتي؟! سدود شمال سواحل الدلتا الغرض الأساسي حماية سواحل الدلتا من الغرق نتيجة التغيرات المناخية التي تهدد بارتفاع منسوب البحار مترا أو أكثر. الإفادة من التجربة الهولندية لنحو ألف عام أمر مرغوب فعلا.. هذه السدود عبارة عن حوائط حجرية وطينية متتالية فيما بينها مسافات للنمو النباتي يزيد من المقاومة ونحن نسميها جسرا في الريف علي طول النيل. فكرة الحواجز قديمة لدرء أخطار الفيضانات ولكن أشيعها في هولندا لظروفها الطبيعية المنبسطة قرب سطح البحر لدرجة أن هولندا تسمي بلاد الجسور وطواحين الهواء وزهور التيوليب والبسكليت. طواحين الهواء كانت ضرورية لرفع الماء عن الأرض وإلقائه في البحر والنهر. ولكن ذلك لم يمنع من طغيان بحر الشمال في القرن13 م. وتكوين خليج زويدر( أي البحيرة الجنوبية) وموت60 ألفا من الناس. وتكررت إغارة البحر طوال قرون آخرها1953, وبعدها بدأ تخطيط مشروع باسم دلتا الذي انتهي في أوائل الثمانينيات بإقامة عدة سدود عند مدخل خليج زويدر وأجزائه الجنوبية والشرقية المعروفة الآن باسم فليفولاندFlevoland بمساحة1417 كم2( نحو مساحة المنوفية) وعدد سكان375 ألفا. هذا بإجمال الوضع في هولندا, وعلينا في مصر أن نعرف أن طول سواحل الدلتا220 كم, وأن التربة في بعض شمال الدلتا رملية وطينية, وأن هناك مسطحات البحيرات الثلاث الضحلة المنزلة والبرلس وإدكو, وأن المناخ غير ما هو عليه في هولندا.. إلخ, ذلك من العوامل المختلفة, وفوق هذا التكلفة الهائلة لإقامة أسوار وحواجز متكاملة, خاصة في مناطق حيوية كفتحتي قناة السويس ورأس البر وميناء دمياط ومصب رشيد ومنشآت الغاز في إدكو.. إلخ. ولكنها تحتاج دراسات متأنية دقيقة لقاع البحر علي أبعاد كيلو وأكثر من خط الساحل الحالي. كل ذلك وغيره لهو من العوامل باهظة التكلفة في البحث العلمي والتطبيق والتنفيذ الفعلي. عن صحيفة الاهرام المصرية 15/12/2007