إذا لم نبدأ الآن في حماية الأراضي من طغيان البحر فإننا نعطي الأرض للبحر هدية'' قد نكون الآن آمنين لكننا يجب أن نستثمر الآن لنعطي الأمان للذين سيعيشون بعد50 سنة' هذه وغيرها أقوال خبراء المعهد القومي الهولندي لحماية وإدارة السواحل والشواطئ البحرية في لاهاي. وهي حقا كلمات صدق وهي أكثر صدقا علي أحوال دلتا مصر وغيرها من دلتاوات العالم كثيفة السكان سواء كانت في الولاياتالمتحدة الغنية أو بنجلاديش الفقيرة. فهؤلاء الخبراء يرون أن إجراءات الحماية الحالية مثلا في أمريكا كأنها لعبة طفل فما بالنا في عوالم أخري؟. معروف أن أشد الكوارث الطبيعية خطورة هي تلك التي تحدث في طغيان المياه البحرية والنهرية ولنتذكر أن الطوفان في كتبنا المقدسة كان العقاب الإلهي الذي عم الأرض. ولنتذكر أيضا أن إعصارا واحدا( كاترينا سنة2005) دمر مدينة نيو أورليانز الأمريكية. تعتبر هولندا الدولة الأكبر في خبراتها وتجاربها ضد غوائل البحار منذ القرون الوسطي, حيث أقامت سلاسل من طواحين الهواء الشهيرة لسحب المياه واكتساب أراض جديدة. مساحة هولندا الحالية41 ألف كيلو متر مربع, أي مرة وربع قدر مساحة الدلتا بين الاسكندرية وبورسعيد والقاهرة الكبري( بما في ذلك ما بين النطرون والإسماعيلية ومستصلحات الأراضي حول الدلتا شرقا وغربا) سكان هولندا16 مليونا وسكان إقليم الدلتا نحو33 مليونا( بدون القاهرة والإسكندرية).25% من مساحة هولندا تحت مستوي سطح البحر( أخفض منطقة قرب روتردام6.7 متر تحت منسوب البحر) اكتسبت هولندا معظم هذه الأراضي ببناء السدود والأهوسة في مشروعين أولهما زويدر زي حيث كسبت أرضا زراعية مساحتها نحو415 ألف فدان والثاني تثبيت جزر زيلاند مع مزيد من استثمارها في الدلتا المشتركة لأنهار الراين والميز والشلد وتأمين الملاحة إلي ألمانيا وبلجيكا وشمال فرنسا. بينما الدلتا المصرية في مجموعها من صفر إلي نحو18 مترا( عند القناطر الخيرية) فوق منسوب سطح البحر وهي بذلك أحسن حظا فيما عدا بحيرات شمال الدلتا. هل كان المصريون نائمين عن استثمار واكتساب أرض جديدة في شمال الدلتا؟ العكس يثبت غير ذلك تماما. ففي خرائط أواخر القرن ال18( الحملة الفرنسية) كانت هناك مساحات كبيرة تغطيها المياه كامتداد لبحيرة مريوط في شمال غرب محافظة البحيرة الحالية حتي أبوالمطامير جنوبا وبحيرة أخري كانت تسمي المعدية تمتد من شرق مريوط إلي قرب بحيرة إدكو التي كانت بدورها أكثر من ضعف مساحتها الحالية. وفيما بين مريوط والمعدية شريط من الأرض العالية التي اكتسبها المزارعون أيا كانوا( ملاكا وفلاحين) يمتد مع ترعة الرحمانية عبر البيضا حتي الاسكندرية. ومثل هذا كان هناك شريط آخر يمتد مع البحر الصغير من المنصورة إلي المنزلة بين بحيرة المنزلة وبركة الدقهلية الواسعة التي كانت تمتد شرقا حتي صان الحجر. أما شمال وسط الدلتا فكانت كثيرة المنافع والبحيرات المرتبطة ببحيرة البرلس ذات الامتداد الشاسع آنذاك في معظم أراضي كفر الشيخ الحالية. كل هذه البحيرات الداخلية حولها المصريون إلي أراض زراعية جيدة في الدقهليةوكفر الشيخ والبحيرة خلال جهود متصلة طيلة القرن19 آخرها استصلاح أراضي شمال كفر الشيخ في أوائل القرن20. بعبارة أخري كانت مصر نشيطة ومازالت في التوسع الأفقي والرأسي معا, فلماذا التراخي الآن في الحفاظ علي مكاسب قرنين من الزمن؟ يجب أن نضع سياسة محكمة لا هوادة في تنفيذها من أجل حماية تآكل شمال الدلتا تحسبا لمتغيرات سطح البحر سواء جاء ذلك بعد نصف قرن أو قرن. واجبنا الحفاظ علي الأرض التي استخلفنا فيها لنسلم الأمانة إلي أجيالنا التالية مهما كانت التكلفة. معروف أن ارتفاع متر واحد في سطح البحر سيقضي علي نحو ربع أو ثلث مساحة الدلتا الحالية ويؤدي إلي تمليح مساحات أخري من أراض ممتازة في وسط الدلتا, فالخسارة في مصر مزدوجة, ففي جانب فقدان الأرض وفي جانب آخر خسارة أضعاف أضعاف ذلك إذا اتبعنا سياسة التواكل والتظاهر بأن الأشياء سوف تمر دون أفكار سود. فهناك من يشككون تهربا من المسئولية لكن العالم يعرف بالمعرفة المتداولة أن التغيير قادم سواء كان نتيجة عوامل طبيعية بحتة حدثت وتحدث للكرة الأرضية باستمرار, أو أن التغيير قد تسارع بفعل الاحتباس الحراري الذي أطلق الانسان مسبباته. ماذا تفعل هولندا الآن؟ إنها لا تكتفي بتقوية ودعم حصونها ضد غزو البحر, بل قفزت بفكر خلاق وصفه بإيجاز كالتالي: في المنطقة الساحلية إلي الجنوب قليلا من لاهاي وبالذات عند بلدة مونستر تقوم ببناء كثبان رملية في صورة حائط يرتفع إلي نحو عشرة أمتار بموازاة الساحل. هناك سفينتان أو كراكتان كبيرتان تعملان علي مدي اليوم بالتبادل لرفع الرمال من قاع بحر الشمال علي بعد15 كيلو مترا من الساحل تضخ هذه الرمال في أنبوب ضخم إلي قرب الشاطئ وتقوم البلدوزرات بدكه وتكويمه في صورة تلال رملية مستمرة بعرض نحو30 إلي60 مترا تغطي بعد ذلك بزراعة أعشاب محددة ذات جذور طولية لتثبيت الكثبان. كمية الرمال التي سوف تنقل حتي2011 تقدر بنحو18 مليون متر مكعب والنتيجة النهائية أن هولندا تكسب تدريجيا مترا وراء متر من البحر. التكلفة عالية تبلغ نحو200 مليون دولار لجزء من الشاطئ طوله نحو20 كيلو مترا فقط, لكن الأرباح المؤكدة هي الصمود وعدم الاستسلام لأوهام أنه ربما لا يحدث تغيير! إنه جزء من معركة مع البحر لا تنتهي. فكلما أقيمت خطوط كثبان متتالية تكون المعركة في صالح بقاء الحياة عاملة آمنة. في سبتمبر الماضي قدرت لجنة مشكلة من الحكومة أن تكلفة حماية هولندا المنخفضة هي غالبا أكثر من مائة مليار يورو علي مدي القرن ال21, ليس فقط بناء كثبان ولكن بناء سدود وتحسين آخر وتحديث كل الدفاعات. هي حقا تكلفة عالية لكنها علي المدي الطويل أقل بكثير من قائمة خسارات الأرض والمدن والبني التحتية ونقل الناس والأنشطة. هل يمكن دراسة مثل هذا المشروع الرائد مع الاستعانة بالهولنديين فهم حقا رواد في هذا المجال؟. هل يمكن ذلك فنجني ربحا مزدوجا: حماية الدلتا الحالية مع تحسين خواصها, ومن ناحية أخري ربما نزيد أرضا علي حساب البحر قد تصلح لأغراض متعددة سكنية واصطيافية مما يصبح من منشطات اقتصادات الناس بدلا من المزيد من التركيز والتكأكؤ حول القاهرة دون رادع؟ فالقاهرة أصبحت مشكلة ولا يمكن اختصار مصر في القاهرة, ومع ذلك هناك رؤوس أموال ضخمة تظهر من مخادعها وتنثر في مشروعات ضاقت بها المدينة. ألا تكفي مشكلات القاهرة؟ لا بل نزيدها إشكالا بمشروعات ذات أسماء طنانة مثل القاهرةالجديدة بتجمعاتها وجامعاتها في الشرق ومشروع المقطم المسمي البلدة العالية وغرب القاهرةالجديدة, فضلا عن بدر والشروق والعبور والرحاب ومدينتي و15 مايو و6 أكتوبر والشيخ زايد والقرية الذكيةوعلي طول الطريق إلي الأهرامات والنمو السرطاني جنوبالجيزة إلي المريوطية, وما يجيء ربما أعظم وأدهي!! أليس الانفاق علي مشروعات منتجة أكثر مشروعية بلدنا مصر؟. * نقلا عن جريدة "الاهرام" المصرية